فصل: باب: تدبير النصارى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: وطء المدبرة:

12469- وطء المدبرة جائز، وإذا استولدها المولى، فلا خفاء بثبوت الاستيلاد، ولا يبقى للتدبير أثر؛ فإن أمية الولد تُحصِّل العَتاقة على اللزوم، ولكن من طريق التقدير لا يكون الاستيلاد مناقضاً للتدبير؛ فإنه يوافق مقصودَه، ويؤكدُه.
وليس مساق الكلام في هذا كقولنا: الاستيلاد لا ينافي الكتابة؛ فإن المكاتبة إذا استولدها السيد، وعتقت بموت مولاها، استتبعت الكسب والولد، وهذا من آثار الكتابة، وليس يبقى لعتق التدبير خاصية، حتى يقال: إنها باقية مع الاستيلاد، وليس من الفقه أن يقال: العتق معلل بعلتين، فإن خبط الأصوليين في هذا عظيم، ولسنا له الآن. نعم، إذا أوصى رجل بجاريته لإنسان، ثم استولدها، فهذا رجوع عن الوصية لمضادة الاستيلاد مقصود الوصية للغير، ولو وطئها ولم يعزل، فقد نجعل ذلك رجوعاً عن الوصية.
ولو وطىء المولى المدبَّرة ولم يعزل-والتفريع على أن الرجوع ممكن في التدبير بناء على أنه وصية- فلا يكون الوطء رجوعاً عن التدبير؛ فإن المنتظر منه العلوق؛ ولا منافاة بين مقتضاه وبين مقصود التدبير، فمن هذا الوجه تفترق الوصية والتدبير في مقدمة الاستيلاد.
ولو دبّر عبداً، ثم كاتبه-والتفريع على أن التدبير وصية- فهل تكون المكاتبة رجوعاً عن الوصية؟ فعلى قولين، نقلهما صاحب التقريب، ومنشأ التردد أن مقصود الكتابة العتُق أيضاً، ويخرج عندنا على هذا التردد ما لو علّق المولى عتق المدبر بصفة، وقد أطلق الأصحاب كون ذلك رجوعاً عن الوصية للغير. وقد ذكرت حكم الرجوع في موضعه.
وذكر الشيخ أبو علي أمراً بدعاً لا يليق به، فقال: إذا جعلنا التدبير وصية، فلو وَهَبَ المدبَّرَ ولم يسلِّم، كان راجعاً عن التدبير، وهذا منقاس، قال: وإن قلنا: التدبير تعليق، فهل تكون الهبة من غير إقباض إبطالاً للتدبير؟ فعلى وجهين.
ولست أعرف لهذا الاختلاف وجهاً، ولا طريق إلا القطع بأن الهبة بمجردها لا تُبطل التدبير. نعم، إذا اتصلت الهبة بالإقباض-فإن قلنا: الملك يحصل عند التسليم- فعنده ينقطع التدبير، وإن قلنا: نتبين استناد الملك إلى حالة الهبة، فهل نتبين استناد انقطاع التدبير؛ هذا فيه تردد.
وكذلك لو فرض بيع على شرط الخيار، وجعلناه مزيلاً للملك، فهل يبطل التدبير به قبل لزوم البيع؟ فيه تردد.
وأثر ذلك في أنا إن قلنا: إذا زال الملك على وجه اللزوم، وعاد، فالتدبير منقطع، فلو زال على الجواز، ثم عاد، فهل نحكم بانقطاع التدبير؟ فيه تردد بيّن.
يجوز أن يقال: ينقطع لزوال الملك، ويجوز أن يقال: لا ينقطع كالطلاق الرجعي إذا تداركته الرجعة، فإن الأيمان لا تنقطع، والعلم عند الله. وقد نجز هذا الغرض.
12470- ونحن نأخذ بعده في تفصيل المذهب في ولد المدبرة. فنقول: إذا أتت المدبرة بولد بعد التدبير عن نكاحٍ أو سفاحٍ، وتبين حصول العلوق به بعد التدبير، فهل يثبت لولدها حكم التدبير؟ فعلى قولين منصوصين:
أحدهما: لا يثبت، وهو القياس؛ فإن التدبير عرضةُ الرجوع في قولٍ، وهو بصدد الإبطال بالبيع في قولٍ، وما لا يلزم أو يتطرق إليه إمكان الرفع، فقياس المذهب فيه ألا يتعدى من الأم إلى الولد، اعتباراً بالرهن؛ فإنه لا يتعدى إلى الولد، وليس كولد المستولدة؛ فإن الاستيلاد لازمٌ، لا دفع له.
والقول الثاني- أنه يثبت التدبير للولد، تشبيهاً بالاستيلاد؛ فإن كل واحد منهما يتضمن العَتاقة عند الموت.
وبنى أصحابنا القولين على أن التدبير وصيةٌ أو تعليق، فإن قلنا: إنه وصية، لم يتعد إلى الولد، وإن قلنا: إنه تعليق، تعدى.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الأئمة نقلوا قولين في أن تعليق عتق الأمة بالصفة هل يتعدى إلى الولد الذي تَعْلق به بعد التعليق؟ فمختار الأئمة طرد القولين، سواء قلنا: التدبير وصية أو تعليق.
وكان شيخي يقول: إذا أوصى الرجل بجارية، فعلقت بمولود بعد الوصية، الظاهرُ القطعُ بأن الوصية لا تتعدى إلى الولد، إذا حصل العلوق في حياة الموصي، ويمكن إجراء القولين كما ذكرناه في التدبير، والأظهر القطع؛ فإن الشافعي إنما ردد قوله في ولد المدبرة على مذهب التشبيه بالمستولدة، وهذا التشبيه يختص بعقد العَتاقة.
12471- التفريع على أصل القولين في ولد المدبرة: إن قلنا: يتعدى التدبير إلى الولد الحادث من بعدُ، فلا كلام، وإن قلنا: لا يتعدى التدبير إليه، فلو كانت الجارية حاملاً لمّا دبرها، فهل يثبت التدبير في ولدها الموجود حالة توجيه التدبير عليها؟ فعلى وجهين: أظهرهما- أنه يتعدى، لا للسريان، ولكن لاشتمال اللفظ على الحمل.
ومن أصحابنا من قال: لا يتعدى، ولم أرَ خلافاً أنه لو أعتقها وفي بطنها جنين، ثبت العتق في الجنين.
ثم إذا قلنا: يثبت التدبير في الجنين، ولا يثبت فيما يحدث العلوق به من بعدُ، فلو أتت بولد لدون ستة أشهر من وقت التدبير، فقد بان أنه كان موجوداً، وإن أتت به لأكثرَ من ستة أشهر-والتفريع على أن التدبير لا يتعدى إلى الولد الحادث بعد التدبير- فعند ذلك نُفَصِّل بين أن يكون لها من يفترشها بعد التدبير: بأن كانت مزوّجة، وبين ألا يفترشها بعد التدبير مفترش. والعهد قريب بهذا التفصيل في جر الولاء، والقول هاهنا كالقول ثَمَّ.
ثم إذا أثبتنا للولد حكمَ التدبير، فلا خلاف أن الأم لو ماتت قبل موت المَوْلى، لم يبطل التدبير في ولدها، ويعتِق الولد بموت المولى على حسب ما كانت الأم تعتِق لو بقيت، ولو باع الأم أو رجع عن التدبير فيها-على قول الرجوع- بقي التدبير في الولد، وهذا يحقق أن التدبير تأصّل في الولد.
12472- ومما يتصل بهذا المنتهى ما ذكره ابنُ الحداد في مسائلَ أتى بها بدداً من الكتب، قال: إذا مات السيد، وخلف تركةً، ومدبّرةً، وولدَها، وكان الثلث يفي بأحدهما دون الثاني- قال ابن الحداد: يقرع بين الأم والولد، كما لو دبّر عبدين، وقال بعض أصحابنا: يقسم العتق بينهما؛ فإنا لو أقرعنا، فقد تخرج القرعة على الولد، وترِق الأم، وهي الأصل، ومنها تعدى التدبير؛ فإن الولد لم يُدبّر، فيبعد أن ترِق ويعتِق الولد.
وهذا ليس بشيء. والوجه ما قاله ابن الحداد؛ فإن التدبير إذا ثبت، فلا نظر بعد ثبوته إلى ذلك، ولو صح هذا المعنى، لوجب أن يقال: تعتق الأم لا محالة، فإن بقي وفاء بالولد، فذاك، وإلا حُكم برقه، ولا قائل بذلك، وكذلك لا نعرف خلافاً أن المدبرة لو ماتت قبل موت المولى، فقد ماتت رقيقة، والتدبير لا ينقطع في الولد، فالأصل ما ذكره ابن الحداد.
12473- ثم فرع الشافعي على قول جريان التدبير، وقال: لو اختلف المولى والمدبَّرة، فقال المولى: هذا الولد ولدتيه قبل التدبير، فهو منّي وقالت: ولدته بعد التدبير، فالقول قول المولى؛ لأن الأصل بقاء ملكه على ولد أمته. وكذلك لو وقع هذا الاختلاف بينها وبين الوارث بعد موت المولى، فالقول قول الوارث.
وقد يتصور الخلاف بين الوارث وبين المدبرة على قولنا: لا يسري التدبير إلى الولد. وبيان تصويره أن الوارث لو قال: ولدتِ هذا الولد قبل موت المولى، فكان رقيقاًً، وقالت: بل ولدته بعد موته، فهو حر؛ فإن الحرة قط لا تلد رقيقاًً؛ فإنها وإن كانت حاملاً برقيق، فإذا عتَقَت عَتَق ولدها في بطنها؛ فإذا فرض النزاع كذلك، فالقول قول الوارث؛ جرياً على الأصل الذي ذكرناه.
فإن قيل: إذا انفصل، وكان الثلث لا يفي بها وبولدها، فكيف تحكمون بعتق الولد؟ قلنا: إذا خرجت قيمتها وهي حامل من الثلث، لم نعتبر قيمة الولد بعد الانفصال.
12474- ومما يتم به البيان أنه إذا علّق عتقَ جاريته بدخول الدار، فأتت بولد، وقلنا: يتعدى التعليقُ إليه- فالذي ذكره الأصحاب أن الأم إذا دخلت الدارَ، وعَتقَت، عَتَق ولدُها، وإن لم يدخل الدار. فقَضَوْا بأن الولد يعتِق، بما تعتق به الأم.
وكان شيخي أبو محمد يقول: معنى تعدِّي التعليق إلى الولد، أن الولد لو دخل، عَتَق، فأما أن يعتِق بعتق الأم، فلا.
وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فليس بعيداً في التوجيه؛ فإن الأصحاب إنما قالوا ما قالوه عن المدبَّرة إذا مات عنها مولاها ولها ولد، فإنهما يعتِقان، ولكن لا اختصاص للموت بالأم، بل مات المولى عنهما.
ولو ماتت الأم أولاً، ثم مات المولى، لعَتَق الولد، فموت المولى عنهما كموته عن عبدين دبرهما.
فأما إذا سرّينا التعليق، وقلنا: يعتق الولد بدخول الأم الدار، مع انتفاء الدخول عنه، فهذا تسرية عتق، وليس بتسرية التعليق. والله أعلم.

.باب: تدبير النصارى:

12475- تدبير الذمي المعاهد والحربي جائز، وإعتاقهم عبيدَهم نافذٌ؛ فإن هذا من تصرفات المُلاّك في الأملاك، والملك ثابت لهم. ثم ذكر أن الذمي لو دبّر عبداً، ونقض العهد، فله حمل مدبَّره الكافر؛ فإنه رقيق، وهو عرضة تصرفات المولى؛ ولو كاتب عبداً ثم أراد حمله، لم يجد إليه سبيلاً.
ولو أسلم مدبَّر الكافر، فهل نبيعه عليه؟ فعلى قولين:
أحدهما: يباع؛ فإنه قابل للبيع؛ فلا يدام عليه رق الكافر، مع القدرة على إزالته.
والثاني: أنه يحال بينه وبينه على رجاء أن يعتِق؛ فإن إدامة هذا له أغبط عليه من بيعه لمسلم.
فرع:
12476- إذا كان للرجل جاريةٌ حامل بولد رقيق، فدبّر حملها دونها، صح ذلك، ولو دبرهما جميعاً، ثم رجع عن التدبير فيها، بقي التدبير في الولد، وهل يصح الرجوع عن التدبير في الحمل إذا كنا نجوز الرجوع؟ فعلى وجهين: أصحهما- أن ذلك ممكن؛ فإنا وإن كنا نسرّي التدبير إلى الولد، فلا يبعد الرجوع عن التدبير فيه مع إبقائه في الأم. هذا هو المذهب.
ومن أصحابنا من امتنع من تصوير الرجوع في الولد-وهو حملٌ- مع إبقاء التدبير في الأم، وهذا هَوَسٌ غيرُ معتد به، ولا خلاف أن ذلك جائز على قول الرجوع بعد انفصال الولد.
فلو دبر الجنينَ دون الأم، ثم باع الأم، فقد ذكر العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أنه إن قصد الرجوع عن تدبير الولد، صح البيع في الأم والولد، وإن لم ينوِ الرجوع عن تدبير الولد، فلا يصح البيع في الولد، ثم إذا لم يصح فيه، لم يصح في الأم على الرأي الأصح فيه إذا باع جارية حبلى بولد حر، وهذا اختيار صاحب التقريب، لم يحك غيره.
والوجه الثاني- أنه يصح البيع في الأم والولد، وإن لم ينو رجوعاً وهذا هو القياس، ومنشأ الخلاف عندي من شيء وهو أن البيع هل يتناول الحمل حتى يقابل بقسط من الثمن؛ فإن قلنا: يتناوله، صح البيع؛ وإن قلنا: لا يتناوله، ثار منه التردد.
فرع:
12478- عبد مشترك بين شريكين دبر أحدهما نصيبه، فالمذهب أن التدبير لا يسري إلى نصيب الشريك.
وذكر العراقيون والشيخ أبو علي وجهين في سريان التدبير: أظهرهما- أنه لا يسري.
والثاني: أنه يسري، ويقوَّم على الشريك المدبِّر نصيبُ صاحبه على قياس سراية العتق. وهذا رديء لا أعرف له توجيهاً.
ولو كان العبد خالصاً، فدبر سيدُه نصفَه، فإن قلنا: يسري التدبير إلى نصيب الشريك، فلا شك في سريانه إلى عبده الخالص. وإن قلنا: لا يسري ثَمَّ، فلا يسري هاهنا.
فرع:
12479- إذا دبر الرجل نصيبه من العبد المشترك، وقلنا: لا يسري التدبير، فلو أعتق صاحبُه نصيب نفسه، فهل يسري عتقه إلى نصيب المدبِّر؟ ذكر الإمام والعراقيون والشيخ قولين:
أحدهما: أنه يسري، وهو القياس.
والثاني: لا يسري لحق المدبِّر؛ فإن السراية من ضرورتها نقل الملك، وهذا عندي شديد الشبه بالطلاق قبل المسيس، وقد دبرت المرأةُ العبدَ المصْدَق، فإن ذلك الارتداد قهري كهذا، ولكن نقل الملك لتسرية العتق أقوى لسلطان العتق.
ثم إن قلنا: لا يسري، فلو رجع المولى عن التدبير، فهل يسري الآن؟ قال الأصحاب: لا يسري؛ فإنه قد امتنع السريان حالة العتق، فلا يسري بعده، وهذا كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر.
وحكى شيخي وجهاً: أنه يسري؛ فإنا منعنا السراية لرجاء العتق بسبب التدبير، فإذا زال التدبير سرّينا، ثم ذكر على هذا الوجه وجهين:
أحدهما: أنا نسرّي كما زال التدبير.
والثاني: نتبين السريان مستنداً إلى العتق.
12480- ثم عقد الشافعي باب في تدبير الصبي المميز وتدبيرُه كوصيته، وإن لم نجعل التدبير وصية، وفي وصيته قولان ذكرناهما في كتاب الوصايا.
فإن قيل: إذا جعلتم التدبير تعليقاً، فلم تصححونه منه، والتعليق منه باطل؟ قلنا: لأنه تعليق في معنى الوصية؛ إذ العتق يحصل به بعد الموت.

.كتاب المُكاتَبِ:

12481- الأصل في الكتابة: الكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33].
والأخبار والآثار في الكتابة قريبة مَن حد الاستفاضة، والإجماع منعقد عليها.
وقيل: اشتقاق الكتابة من الكَتْب، وهو الضم، يقال: كتبتُ البغلَةَ إذا جمعت بين شُفريها بحلقة، وكَتبتُ القِربة إذا خرزتها، وضممت أحدَ شقيها إلى الآخر، وسميت الكتابة كتابة لما فيها من ضم الحروف والكلم ونظمها، والكتيبة سميت كتيبة لانضمام بعض الناس إلى البعض، فالكتابة سميت كتابة لانضمام بعض النجوم منها إلى البعض.
12482- ثم أصل الكتابة خارج عن قياس العقود والمعاملات من وجوه:
منها- أنها معاملة مشتملةٌ على العوض دائرةٌ بين السيد وعبده. وهذا بدع في الأصول.
ومنها: أنه يقابل عبده المملوك بما يُحصِّله العبدُ كسباً، وكسبُ العبد للمولى، فالعوض والمعوّض صادران عن ملكه.
ومنها: أن المكاتَب على منزلةٍ بين الرق المحقق وبين العتق، فليس له استقلال الأحرار، ولا انقياد المماليك، وينشأ منه خروج تصرفاته على التردد بين الاستقلال ونقيضه، ثم ينتهي الأمر إلى معاملته السيدَ، وانتظام الطلب بينهما، واستحقاق كل واحد على صاحبه، ثم يثبت للمكاتب ملكٌ، وقياس المذهب الجديد أن المملوك لا يملك، ثم يعتِق ويتبعه ما فضل من كسبه.
فأصل الكتابة إذاً خارج عن وضع قياس العقود، فرأى الشافعي الاتباع في الأصل، وتنزيلَ الكتابة على مورد الشرع، ولذلك رأى التنجيم فيها حتماً؛ فإنه لم يُلفِ كتابة فيما بلغه من آثار الأولين إلا مشتملة على التنجيم، وأوجب الإيتاء بناء على ذلك أيضاً.
12483- ثم العقود مبناها على المصالح، وأقدار الأغراض، وذلك بيّن في كل عقد، فلسنا نطيل الكلام بذكر وجوه المصالح فيها.
ثم مما يجب التفطن له في تمهيد ما ذكرناه أن ما يُفسد عقداً، قد يقع شرطاً في عقد، وهذا بمثابة قولنا: المعقود عليه في البيع يجب أن يكون موجوداً، والإجارة كما أجيزت للحاجة والمصلحة، فهي لا تَرِد إلا على منافع معدومة، ثم الإعلام شرطٌ في الإجارة، إما بالمدة وإما بذكر ملتمسٍ معلومٍ، كخياطة الثوب ونحوها.
ومقصود النكاح لا يثبت إلا مجهولاً ممدوداً على أمد العمر، والتأقيت يفسده، كما أن التأبيد يفسد الإجارة؛ لأن اللائق بكل عقد ما أثبت فيه: إما تأقيتٌ أو تأبيد؛ وصحت الجعالة مع ظهور الجهالة فيها لمسيس الحاجة، حتى لا يُشترط في بعض صورها قبول وتعيين مخاطب؛ فيقول الجاعل: من رد عبدي، فله عليّ كذا.
ثم جرت هذه العقود على حاجاتٍ حاقّة، تكاد تعم، والحاجةُ إذا عمت، كانت كالضرورة، وتغلب فيها الضرورةُ الحقيقية؛ ثم أثبت الشرع معاملةً لا تظهر الحاجة فيها ظهورها في القواعد التي ذكرناها، ولكنها تتعلق بالاتساع في المعيشة، وتحصيل الزوائد والفوائد، كالقراض في تحصيل الأرباح، ثم أثبت الشرع فيه أمراً بدعاً لتحصيل الربح، وأثبت عوض عمل العامل جزءاً من الربح، ليكون ذلك تحريضاً له على بذل الجد في الاسترباح. والكتابة من وراء ذلك؛ فإن العبد يستفرغُ الوسع، ويتناهى في تحصيل الأكساب إذا كوتب.
والعتق محثوث عليه على الجملة، والرق من أظهر آثار القهر والسطوة، فرأى الشرع إثباتَ معاملة يحصل بها التقرب إلى الله تعالى بالعتق؛ فإن الكسب يُمْلَكُ من العبد مِلْكَه، ثم لا يحصل الغرض بتعجيل العتق واتّباع معسر لا مال له؛ فإن الرغبات تتقاعد عن ذلك؛ فكانت المكاتبة معاملة تحقق الغرض الذي أشرنا إليه.
12484- وكل عقد لم يعهد له نظير في العقود، فلا ينبغي أن يقال: لا يعقل معناه؛ فإن وضعه ومقصودَ الشرع منه معقول، ولكن لو رُدّ الأمر إلى نظرنا، لم نستنبط من قياس العقود وضعَ ما أحدثه الشرع لمقصود جديد، وإذا عقلنا معناه وخاصيته في مقصوده، تصرفنا بما فهمناه في تفصيل ذلك العقد، حتى نجيز ما يتوفر المقصود عليه، ونفسد ما يتخلف المقصود عنه.
وننظم في هذه المسالك أقيسة فقهية وأخرى شبهيّة وننوّعها إلى جلية وخفية، ولذلك تتسع مسائلُ كتابٍ، فتبلغ آلافاً، وموضع النص منها معدود محدود، وليس لنا أن نفتتح مصالح، ونبني بحسبها عقوداً؛ فإن ما نتخيل من جهات المصالح لا نهاية لها، وقواعد الشرع مضبوطة، وإن فرضت مصلحة شبيهة بالمصلحة المعتبرة في الشرع، فقد نجوّز القياس فيها بطريق التشبيه إذا ظهر، وهذا مقام يجب أن يتأنق القائسُ فيه، ويحاذر البعدَ عن الاتباع، ولا يجري بالخَطْو الوساع.
هذا الشافعي لما رأى المساقاة قريبة من القراض، ورام أن ينظم بينهما تشبيهاً، لم يهجم على قياس المساقاة على القراض، بل استمسك بالحديث في المساقاة، ثم لما رام التعلُّقَ بالمعنى، قال: ليس للقراض ثبتٌ في الحديث، ولم يُجمع الأصحاب عليه إلا عمّا ظهر لهم في المساقاة- في كلام طويل وفيناه حقه من التقرير في الخلاف.
12485- ثم إنا نستعين بالله فنقول: وضع الكتابة على الاتباع، فلذلك وجب فيها التنجيمُ، والإيتاء، كما سيأتي إن شاء الله.
ثم انتظمت الكتابة معاوضة حقيقية بعد ما احتُمل معاوضة الملك بالملك، ولم تصح على عين، لأنها ملك يُحصَّل للسيد، والكتابة للتحريض على تحصيل الكسب، واقتضى ذلك تسليطَه على الكسب على الاستقلال، على شرط ضرب الحجر عليه في التبرع، فقد يكتسب ويَضَعُ، وابتنى على هذا معاملته للسيد؛ فإن عليه أداء النجوم، وله طلب النجم منه، فكان كل عوض في معاملة بهذه المثابة، ثم لو أعتقه السيد برىء؛ لأنا احتملنا عوضَ الكتابة لتحصيل العتق، فإذا حصل العتق، ارتدت النجوم، ولو أبرأ عن النجوم، حصل العتق على قياس المعاوضة؛ فإن استيفاء العوض والإبراء عنه بمثابة، وتعليق العتق بتأدية النجوم ضِمْنٌ؛ فإذا قال: إن أديت، فأنت حر، لم يكن هذا تعليقاً محضاً، بل هو تعبير عن مقصود الكتابة ومآلها، وإلا فالكتابة في صحتها على حكم المعاوضة.
وإن فسدت الكتابةُ، فالعتق لا يفسد تعليقُه، وهو المقصود في تصحيح الكتابة؛ ولولاه، لفسدت الكتابة، نظراً إلى مقاصد العقود، فانتظار هذا المقصود يُثبت للكتابة الفاسدة-في بعض قضاياها- حكمَ الصحة؛ حتى يستقل العبد، والكتابة جائزة؛ لأنه لم تتوفر عليها شرائط الصحة، فإذا حصل العتق، غلب عند حصوله مضاهاة الخلع؛ فإنه إذ ذاك عتق بعوض فاسد، فيثبت الرجوع إلى قيمة العبد، وهذا يناظر الرجوع إلى مهر المثل في الخلع الفاسد.
ثم الكتابة جائزة-وإن صحت- من جانب العبد؛ فإن السيد لا يخسر بتعجيزه نفسَه، وهي لازمة-إذا صحت- من جانب السيد، حتى يثق العبد، فيكتسب.
هذا وضع الكتاب، وتمهيد قاعدتها.
ثم مسائل الكتاب تنعطف على هذه الأصول، وتتبين بها، والأصول تنبسط بالمسائل.
12486- ونعود بعد ذلك إلى ترتيب المسائل، فنقول: إذا دعا العبد مولاه إلى المكاتبة، وكان كسوباً، مائلاً إلى الخير، فإجابته إلى الكتابة مستحبة، والأصل فيه قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، ولا تجب الإجابة خلافاً لداود وطائفةٍ من السلف.
قال صاحب التقريب: ردد الشافعي جوابه في هذا في بعض مصنفاته، ولم يُبعد القولَ بوجوب الإجابة. ثم حكى قولاً مرسلاً للشافعي على هذا النحو، وعضده ببناء الشافعي أصل الكتابة على الاتباع، وقد أوجب الإيتاء تعويلاً على قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وذلك معطوف على قوله: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33].
وهذا غريب، لم أره لغيره، ولست أعتد به، وذلك أن الصيغة ليست ممتنعة عن الحمل على الندب، ولو حملناها على الإيجاب، لبطل أثر الملك، واحتكام الملاك، ولزوم اطراد الرق، فليس يليق بوضع الشرع إيجاب إنشاء الكتابة، ولا يمتنع أن يكون الإيتاء موجَباً لعقد الكتابة بعد اختيار الإقدام عليها؛ ومثل هذا لا يحيط به إلا مَنْ يألف مسالكنا في الأصول.
12487- ولو لم يكن العبد كسوباً ولا أميناً، فلا تستحب مكاتبته؛ فإنه يجرّ بالاستقلال خبالاً، ثم قد يعجّز نفسه آخراً، ولو عَتَق، لكان كلاًّ على المسلمين.
قال العراقيون: إن لم يكن كسوباً، وكان رشيداً ذا خير، ففي استحباب مكاتبته وجهان ذكرهما العراقيون:
أحدهما: أنه لا تستحب، وهو الذي قطع به المراوزة لما أشرنا إليه من أنه إذا لم يكن كسوباً، صار وبالاً بعد العتق يتكفف الوجوه.
والثاني: أنه تستحب إجابته؛ فإن أرباب الزكوات إذا رأوا رُشدَه وخيرَه، رغبوا في تخيّره لصرف سهم المكاتبين إليه، وهذا الوجه يعتضد بظاهر قوله تعالى: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]؛ فإنه ليس في سياق الآية التعرض للكسب.
فأما إذا كان غير رشيد، وكان كسوباً، فلم ير أحد استحبابَ كتابته؛ لأن من لا يوثق به، فلا تعويل على معاقدته.
وهذا الفصل على ظهوره يستدعي مزيد كشف؛ فإن الإعتاق قُربةٌ في العبد، كيف فرض العبد محبوبٌ. وما ذكر من مصير العبد كلاًّ، لا تعويل عليه؛ فإن تنجيز العتق محبوب مع ذلك، فالتعويل على أنا لا نستحب للعبد المكاتبة؛ فإن الكتابة لا تنجز العتق، وإذا لم يكن أمانة وقوة، فيبعد رجاء العتق بطريق الكتابة، ولا يندب السيد إلى إيقاع الحيلولة بين نفسه وملكه من غير ظهور الرجاء في العتق. فهذا هو الأصل.
12488- ثم ذكر الشافعي في بعض مجموعاته لفظة، ننقلها لغرض، قال:"أما أنا، فلا أمتنع-إن شاء الله- من كتابة عبد جمع القوة والأمانة " وظني أن ما حكاه صاحب التقريب مأخوذ من هذا، فإن كان كذلك، فلا وجه له؛ فإن الشافعي قال هذا بإيثاره في حق نفسه الخروجَ عن الخلاف، وابتدار الأحب والأفضل، وهذا كقوله: لو كنت أنا الواجد، لخمست القليل والكثير، ولو وجدت تجارة، لخمستها، وقال: أما أنا، فلا أَقْصر فيما دون ثلاثة أيام، وإن كان القصر مباحاً لي.
ومثل ذلك كثير.
فصل:
قال:"ولا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين... إلى آخره".
12489- كتابةُ الطفل باطلة، وكذلك كتابة المجنون، وتيمن الشافعي في ذلك بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ} [النور: 33]، وقال: لا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين، أراد لا حكم لابتغائهم.
وهذه المسألة مأخوذة من بطلان عبارة الطفل والمجنون في العقود، والمعوّل في صحة العقد المفتقر إلى الإيجاب والقبول على صحة العبارة من الموجِب والقابِل.
وقال أبو حنيفة: كتابة الصغير الذي لا يعقِل عقلَ مثله جائزة، وهذا بناء منه على تصحيح تصرف العبد الصغير إذا كان بإذن المولى، والسيدُ بإيجاب الكتابة له آذنٌ في القبول، وعندنا عبارة الطفل كعبارة المجنون.
فإن قيل: هلا ربطتم صحة العقد بعبارة الطفل المميز، كما أوقعتم الطلاق بقبول السفيهة المحجور عليها إذا خالعها زوجها؟ قلت: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن السفه لا يبطل العبارة بالكلية. فإن قيل: ذكرتم اختلافاً في أن الزوج إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق إن شئت، فقالت:"شئت"، هل يقع الطلاق بعبارتها؟ قلنا: من ذكر ذلك الخلاف في المشيئة، لم يذكره في لفظ العقد؛ فإن العقود متضمّنها إلزامٌ، وعبارة الصبي بعيدة عن هذا المعنى، وقول القائل: شئتُ إذا صدر عن فهم يسمى مشيئة. ثم مع تسليم ذلك كلِّه إذا قال للسفيهة:"أنت طالق على ألف"، فقالت: قبلت، لم يثبت الخلع، ووقع الطلاق رجعياً، والكتابة إذا لم يثبت فيها مقتضى إلزام والتزام، فلا وقع لها، والطلاق ينقسم إلى الرجعي والبائن.
فخرج من مجموع ما ذكرناه أن كتابة الصغير باطلة، لا يثبت لها حكم الكتابة الفاسدة، على ما سنجمع أحكام الكتابة الفاسدة، إن شاء الله، ولكن إن قال المولى: إن أديتَ كذا، فأنتَ حُرٌّ، فوجدت الصفة، قضينا بوقوع الحرية لوجود الصفة، ثم لا يرجع المولى بقيمته عليه، بخلاف ما إذا فسدت الكتابة الجارية مع العبد العاقل البالغ لما ذكرناه من انتفاء الكتابة بالكلية وتمحُّض التعليق.
وفي النفس شيء من قوله:"إن أديت " فإن هذا أداء من حيث الصورة، وإن كان لا يتصور فيه التمليك، أم كيف السبيل فيه؟ وقد ذكرنا أن قول الرجل لامرأته:"إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق" يقتضي إعطاء مع إمكان التمليك، وسنأتي في هذا بما يكشف الغطاء في فصل الكتابة الفاسدة، إن شاء الله عز وجل.
فصل:
قال:"وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة... إلى آخره".
12490- كل ما جاز أن يكون عوضاً في البيع والإجارة والنكاح، جاز أن يكون عوضاً في الكتابة، إذا كان موصوفاً في الذمة منجماً، وهذا يستند إلى ما مهدناه.
فإذا التزمنا الاتباعَ، وسوّغنا معاملة الرجل ملكه بملكه للحاجة التي أومأنا إليها، فلا حاجة بعد تمهيد هذا إلى مخالفة قياس المعاوضات، فيجب أن نرعى فيها من الإعلام ما نرعاه في عقود المعاوضات. ثم تختص الكتابة بكون عوضها واقعاً في الذمة؛ لأن العبد لا يملك عيناً، وما في يده من الأعيان لمولاه، أو لأجنبي، ولا يصح إيراده الكتابة عليها.
فإن قيل: كسبه-لو اطرد الرق- لمولاه.
قلنا: غيرَ أن الكتابة تملكه الكسب، ولا تملكه الكتابة عيناً من أعيان مال السيد؛ فليكن عوضُ الكتابة موصوفاً في الذمة بمثابة المُسلَم فيه إن كان عَرْضاً، وإن كان نقداً غالباً أغنت العادة عن ذكر الأوصاف، كصنيعها في المعاوضات، وأثبت أبو حنيفة العبد المطلق عوضاً، أو صرفه إلى عبد وسط.
فصل:
قال:"ولا يجوز على أقل من نجمين... إلى آخره".
12491- التأجيل ركن في الكتابة عند الشافعي رضي الله عنه، وكذلك التنجيم؛ فلا تصح المكاتبة إلا على نجمين فصاعداً، ومعتمد المذهب الاتباعُ، ولم يثبت عن الأولين تعرية الكتابة عن التأجيل والتنجيم.
وقال أبو حنيفة: الأجل يشترط في السلم لابتنائه على جرّ مرفقٍ موفور، وزعم أن الحلول ينافيه، ثم جوز الكتابة الحالّة ومبناها على المواساة لا غير.
وتعلق بعض أصحابنا بتحقق عجز المكاتب عن تأدية العوض لو كان حالاًّ.
ولست أعتمد ذلك في الخلاف، ولكني أذكره لربط مسائلَ مذهبية بطرده وعكسه.
قال أئمتنا: العبد إذا قبل الكتابة، فلا يتصور له مع حصول القبول ملكٌ عتيد يِتهيأ تأدية العوض فيه، ففرض أصحاب أبي حنيفة مسائلَ نذكرها ونذكر المذهب فيها.
فإن قيل: لو أوصى إنسان له بمال قبل الكتابة، فمات الموصي قبل جريان الكتابة أو فرض إنشاء هبة؟
قلنا: كل ذلك بعد قبول الكتابة، ولو قبل الوصية والهبة قبل قبول الكتابة، لم يصح قبوله على مذهبٍ، ويصح على وجه، ويقع الملك للمولى، وإن فرض القبول بعد قبول الكتابة، فيكون العوض لازماً قبل تمام قبول الوصية، ولا مال ولا تمكن في تلك الحالة.
فإن قيل: لو كاتبه على مقدار من الملح وهما على مَمْلحة، فيقبل الكتابة ويسلِّم الملح.
قلنا: لا يملك الملح ما لم يأخذه، فالأخذ بمثابة قبول الوصية فيما قدمنا.
فإن قيل: لو كان نصفه حراً وقد حصل له مال بنصفه الحر، فكاتب مالك الرق في نصفه النصف المملوك كتابة حالّة؟
قلنا: اختلف أصحابنا في ذلك: فمنهم من جوّز هذا لتمكنه من تأدية النجم، واقتران القدرة والملك بالعقد، ومن أصحابنا من منع ذلك.
والذي يستقيم على تحقيق الأصول المنع؛ فإنا لا نعتمد ما ذكره الأصحاب من تحقق العجز في أول الحال، بل التعويل عندنا في اشتراط التأجيل الاتباعُ، وهذا يطرد في الصور، فلا تجوز الكتابة إلا على حسب ما عُهدت عليه.
فإن قيل: لو كاتب عبدَه على نجمين بينهما لحظة، وكل نجم مالٌ جم، ويبعد الاستمكان من مثله في مثل ذلك الزمان، فما الجواب؟
قلنا: أما من اعتمد اقتران العجز، فقد طردوا وجهين في هذه الصورة:
أحدهما: الجواز لتصور الإمكان، ثم إن لم يتفق، فأصل التعجيز ممهّد. ومن أصحابنا من لم يصحح ذلك؛ لأن ما يندر الاقتدار عليه، فهو في عقود المعاوضات كالمعجوز عنه، ولهذا بَطَل السلمُ فيما يعزّ وجوده بطلانَه فيما يُستيقن عدمه.
وهذا لا أصل له مع الاتفاق على مبايعة المعسر الذي لا يملك شيئاً، مع إثبات ثمن قد لا يستقل به ذوو الثروة والغِنَى، وقد سمعت شيخي في بعض مجالس الإفادة يحكي وجهاً في فساد البيع، إذا كان الثمن زائداً على قيمة المبيع؛ فإن القيمة إن كانت مثلَ الثمن، أمكن صرف المبيع إلى الثمن.
وهذا بعيد لا أصل له، وإن نحن اتبعنا مورد الشرع، ولم نتمسك باقتران العجز، أمكن إجراء الوجهين: فأحدهما- على اتباع صورة التنجيم والتأجيل.
والثاني: أن ذلك ممتنع؛ فإنا وإن اتبعنا، فلا ننكر فهم معنى المواساة؛ وإذا بعُد الإمكان، بطلت المواساة، وهذا يناظر اختلافَ القول في إلحاق المحارم بالأجنبيات في اللمس الناقض للطهارة.
وقد ذكر القاضي وجهين فيه إذا أسلم إلى مكاتَب عقب قبول الكتابة سلماً حالاًّ، وهذا بعينه هو الذي ذكره شيخي رضي الله عنه في البيع من المعسِر، ولكن بين المسلم فيه والثمن فرق على حال؛ ولذلك امتنع الاعتياض عن المسلم فيه، وفي الاعتياض عن الثمن قولان، فالإسلام إلى المعسِر كالإسلام إلى المكاتب على أثر قبول الكتابة، فأما الثمن، فيحتمل ما لا يحتمله المسلم فيه، ولهذا ذهب معظم الأصحاب إلى أن انقطاع جنس الملتزم ثمناً لا يوجب انفساخ العقد، وفي انقطاع المسلم فيه قولان. وذهب المحققون إلى التسوية بين الثمن والمسلم فيه في جميع ذلك، وهذا يخرج حَسَناً على إثبات حق الفسخ للبائع إذا أفلس المشتري بالثمن.
12492- ثم قال الشافعي:"ولو كاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والعين إلى عشر سنين... إلى آخره".
مقصود الشافعي قطعُ وَهْم من يتوهم منعَ المزيد على نجمين، فالنجمان هما الأقل، ولا منتهى لما يجوز من المزيد على التراضي، ولا يشترط اتفاق النجوم في القدر، ولا استواء الأزمنة المتخللة.
ثم قال الشافعي:"ولا يَعتِق حتى يقول في الكتابة: إذا أديت، فأنت حر... إلى آخره".
هذا ما قدمناه في أول التدبير، فالنص أن لفظ التدبير صريح في موضوعه، ولفظ الكتابة ليس صريحاً حتى يقترن بالتصريح بتعليق الحرية على أداء النجوم.
وقد ذكرت اختلافَ الطرق في النقل والتخريج، وتنزيلَ النصين منزلتهما والفرقَ بينهما، والذي نذكره الآن أن هذا التعليق ليس تعليقاً على الحقيقة، وإنما هو نطق بمضمون العقد على الغالب؛ إذ لو كان تعليقاً، لما حصل العتق إلا بالأداء، وإنما الغرض إزالة التردد في لفظ الكتابة، ولهذا قال الأصحاب: النية كافية من غير لفظ، ولو كان التعليق مقصوداً، لبعد حصوله بالنية في ظاهر الحكم. هذا ما أردنا التنبيه عليه.
فصل:
قال"ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر... إلى آخره".
12493- صورة المسألة أن يكاتب عبده على أن يخدمه شهراً، ويؤدي بعد الشهر ديناراً، قال الشافعي: الكتابة على هذا الوجه جائزة؛ فإن منافع المكاتب بعد انعقاد الكتابة بحكم المكاتَب، فإذا وقع الشرط على صرف مقدارٍ منها إلى عوض الكتابة، ساغ ذلك.
وهذه المسألة تهذب الأصل الذي قدمناه في اشتراط التأجيل، أو التنجيم؛ فإن منفعة المكاتب متصلة بقبول الكتابة، ولا أَجَلَ فيها؛ والمدة المذكورة تثبت لتأديتها على حسب وجودها شيئاً فشيئاً، وإلا فاستحقاق المنفعة ثبت حالاًّ، وهذا يوضح أن شيئاً من عوض الكتابة إذا أمكن ثبوته مع التمكن من أدائه، فلا امتناع في حلوله، وإنما نشترط التأجيل في الأعواض التي نستيقن اقتران العجز عنها بعقد الكتابة، وهذا لا يتحقق في منافع المكاتب.
ولو فرض استئخار المنفعة المشروطة عوضاً عن وقت قبول العقد، لما صح العقد؛ فإنّ إضافة العقد اللازم إلى وقت منتظر للمنافع غير جائزة عندنا، ولهذا امتنع إجارة الدار الشهرَ الذي سيأتي، فالمنفعة إذاً لا تثبت عوضاً في الكتابة إلا متصلة، ثم استئخار أدائها على حسب التصور في وجودها، ولكن هذا إنما يتحقق في النجم الأول، ولابد من فرض نجمٍ ثانٍ؛ فإن التنجيم ركن الكتابة، ومن ضرورة محل النجم الثاني أن يتأخر. و النجم الأول يجوز أن يكون حالاً في منفعة المكاتب لا غير؛ فإن الإمكان يتحقق فيها مع القبول، والنجم الثاني يتأجل لا محالة؛ فإنه لا يتحقق تعدد النجم إلا بتخلل فاصل زماني.
ثم لفظ الشافعي في المسألة قد يوهم وجوب تأجيل الدينار، بحيث يحل بعد انقضاء الشهر المذكور وقتاً للمنافع. وقد سبق هذا إلى فهم أبي إسحاق المروزي واعتقده مذهباً، وشرطَ انفصال محل الدينار عن منقرض الشهر ولو بلحظة، وخالفه كافة الأصحاب؛ فلم يشترطوا ذلك، وقالوا: لو كاتب عبده على منفعة شهر ودينار بعد القبول بيومٍ أو بلحظة جاز؛ فإن محل المنافع الساعة المتصلة بالقبول، وطوال الشهر لاستيفاء ما ثبت استحقاقه، فإذا انفصل محل الدينار عما بعد العقد بألطف ساعة، فقد تحقق التنجيم.
ولو أردنا أن نصور حلول نجم المنفعة بعد حلول الدينار، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع إذا انفصل استحقاقها عن العقد، كانت الإضافة إلى زمان منتظر، وهذا ما لا سبيل إليه.
ولو قال: كاتبتك على خدمة شهر، ثم زعم أن الخدمة من كل عشرة أيام من الشهر نجمٌ، لم يصح ذلك؛ فإن المنافع لو لم تستحق دفعة واحدة نجماً واحداً، لكان النجم الثاني مستحقاً على تقدير الإضافة إلى زمان منتظر، وقد يخرج في ذلك وجه إذا وقع التصريح بهذا التفصيل، وهذا الوجه مبني على ما إذا آجر الرجل داره من إنسان، ثم قال: إذا انقضت مدة الإجارة الأولى، فقد أجرتك شهراً آخر، ففي أصحابنا من يصحح ذلك، إذا اتحد المستأجر، واتصل مبتدأ الإجارة الثانية بمنقرض مدة الإجارة الأولى. وهذا الوجه بعيد، ويخرج مثله فيما ذكرناه من الكتابة، والأصح المنع في الموضعين.
ولو كاتبه على خدمة شهر، وخدمة شهر آخر بعد الشهر الأول بعشرة أيام، فسدت الكتابة، لإضافة الاستحقاق إلى زمان منتظر في الشهر الثاني.
ولو أعتق عبده على أن يخدمه شهراً؛ فقبل، عتق في الحال؛ فإنه علق العتق ونجَّزه على قبول الخدمة، فإذا قبلها عَتَق، ثم عليه الوفاء؛ فإن الوفاء ممكن، فإن تعذرت الخدمة في الشهر كله، فالعتق لا مستدرك له، والرجوع إلى قيمة الأجرة، أو إلى قيمة العبد؟ فعلى القولين المذكورين في بدل الخلع، وفي الصداق المسمى إذا فرض فيهما التلف قبل التسليم.
فصل:
قال:"وإن كاتبه على أن باعه شيئاً لم يجز... إلى آخره".
12494- إذا شرط في عقد الكتابة أن يبتاع المكاتب منه شيئاً، فسدت الكتابة، وهذا من باب شرط عقد في عقد.
فلو قال: كاتبتك، وبعت منك هذا العبد بألف، ونجّمه على الشرط المعلوم في الكتابة، فقال العبد: قبلتُ الكتابةَ والبيعَ، أو قال: قبلت البيعَ والكتابةَ، أو قال: قبلتهما، فللأصحاب طريقان في المسألة: ذهب الأكثرون إلى أن البيع لا ينعقد قولاً واحداً، وفي الكتابة قولان، مبنيان على القولين في الصفقة المشتملة على بيع ما يجوز وبيع ما لا يجوز: فإن قلنا: لا يصح البيع فيما يجوز إذا اقترن بما لا يجوز بيعه، فلا تصح الكتابة في مسألتنا، وإن صححنا العقد ثَمَّ فيما يجوز، صحت الكتابة ها هنا، ولا حاجة إلى البناء على القولين في الصفقة التي تجمع عقدين مختلفين كالإجارة والبيع؛ فإن ذلك الفن من التفريع فيه إذا صح إفرادُ كلِّ عقدٍ بالصحة، ومنشأ القولين من اختلاف المقصودين، وهذا المعنى وإن تحقق في البيع والكتابة، فلا حاجة إليه مع حكمنا بفساد البيع، فالوجه إلحاقه ببيع عبد مغصوب وعبد مملوك. ثم السبب في بطلان البيع أن أحد شقيه يقع لا محالة قبل انعقاد الكتابة، وذلك باطل؛ فإن الرقيق لا يخاطب بالبيع وإيجابه.
ثم تمام التفريع على هذه الطريقة أنا إن أفسدنا الكتابة، فسيأتي شرح الكتابة الفاسدة؛ وإن صححنا الكتابة، فهي مُجازةٌ بجميع الألف المذكور ثمناً ونجماً، أم هي مجازة بقسط من الألف؟ فعلى قولين: أصحهما- أنها مجازة بقسط، فالألف أُثبت ثمناً ونجماً، فلا يجوز تغيير موجب اللفظ. والقول الثاني-وهو فاسدٌ، لا اتجاه له مع اشتهاره- أن الألف بجملته يثبت عوضاً في الكتابة، ونجعل كان العبدَ وبيعَه لم يُذكرا، وهذا القول مشهور في تفريق الصفقة. هذه طريقةُ جمهور الأئمة.
ثم التوزيع إذا قلنا به، فمعناه تقويم المكاتب، وتقويم العبد المبيع، ودرك المبلغين، ثم توزيع الألف عليهما، وإسقاط ما يقابل قيمة المبيع، وتقرير ما يقابل قيمة العبد.
ومن أصحابنا من شبب بذكر خلاف في صحة البيع، واستشهد بمسألة في الرهن، وهي أن الرجل إذا قال: اشتريت عبدك هذا بألف، ورهنتك بالألف داري، فقال المخاطب: بعت وارتهنت، فالنص في الرهن دليل على صحة الرهن، وإن جرى أحد شقي الرهن قبل انعقاد البيع.
وهذا القائل يطبق تصوير البيع مع الكتابة على تصور الرهن مع البيع، وقد ذكرنا كيفية تصوير الرهن مع البيع، وأوضحنا تفصيل المذهب فيه، فالبيع مع الكتابة كالرهن مع البيع، فإن سلكنا هذا المسلك، وحكمنا بصحة البيع، فينتظم بعد هذا التقدير تخريج الكتابة والبيع جميعاً على تفريق الصفقة فيه إذا اشتملت على عقدين مختلفي الحكم كالإجارة والبيع، ولا يتأتى هذا المسلك في الرهن والبيع؛ فإن الرهن تابعٌ للبيع، ومؤكد للعوض فيه، فلا يجري مع البيع مجرى عقدين تشتمل عليهما صفقة؛ ولذلك يصح اشتراط الرهن في البيع، ولا يصح اشتراط البيع في الكتابة، وعن هذا المسلك قال المحققون: البيع يبطل في مسألتنا، قولاً واحداً.
والرهن يصح وإن اقترن بالبيع؛ لأنه من مصلحة البيع، وهو من توابعه.
فهذا حاصل القول في هذه المسألة، وبيان طريقي الأصحاب، والأصح الطريقة الأولى.
12495- ثم قال:"ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها في عشر سنين... إلى آخره".
الكتابة فاسدة على هذه الصفة لأن محل الأنجم مجهول، فينبغي أن يبين وقت حلول كل نجم من كل سنة، والقول في إعلام الآجال ابتداءً وانتهاءً مذكور في كتاب السلم وغيره، فلسنا لإعادة صور الوفاق والخلاف منهما في النفي والإثبات.
فصل:
قال:"ولو كاتب ثلاثة كتابة واحدة على مائة منجمة... إلى آخره".
12496- صورة المسألة أن يكاتب ثلاثة أو أربعة من عبيده على مالٍ واحد، وأجّله ونجّمه، وأعلم المحلّ، ولكن لم يبين حصة كل واحد من العبيد، بل قابلهم بالإيجاب، وذكر المال، فقبلوه من غير تفصيل وتوزيع، فالمنصوص عليه صحة الكتابة.
ونص على أنه إذا اشترى أربعة أعبد أو ما شئت من العدد من أربعة أشخاص، فالبيع فاسد. ونص على أنه إذا نكح نسوة وأصدقهن صدقة واحدة، ففي فساد التسمية قولان، ونص أيضاً على قولين في فساد بدل الخلع إذا قوبل به نسوة من غير توزيع.
فالنص في البيع على الفساد، وفي الكتابة على الصحة، وفي الخلع والصداق قولان.
فاختلف أصحابنا على طرق: فمنهم من ضرب النصوص بعضها ببعض، وأجرى في البيع والكتابة قولين، وهذه الطريقة هي المنقاسة الصحيحة؛ فإن إعلام الثمن في البيع، والعوض في الكتابة مرعيٌّ معتبرٌ على قضية واحدة، فإذا جرى في الصداق وبدل الخلع قولان؛ فالوجه جريانهما في البيع والكتابة.
ثم توجيه القولين في المسائل: من قال بالفساد، احتج بأن قال: لم يخص واحداً في العقود بمقدار ما يخصه؛ فكانت حصة كل واحد مجهولة، وجهالة العوض فيما يشترط إعلام العوض فيه مفسد.
ومن قال بالصحة؛ احتج بأن الجملة معلومة في مقابلة الجملة، والوصول إلى التفصيل ممكن بطريق التوزيع، فوجب الحكم بالصحة، كما لو قال: بعتك هذا العبد بما اشتريته، وكانا عالمين بالثمن المسمى في عقد المرابح، ثم قال على ربح" ده يازده" فالعقد صحيح. وإن كان يحتاج في إعلام ما يلزم المشترى إلى حساب وجمع وضم، هذه طريقة.
12497- ومن أصحابنا من أجرى النصوص على ظواهرها، وفرّق بأن قال: البيع حريٌّ بالفساد؛ فإن العوض فيه آكد حكماً، بدليل أن فساده يُفسد البيعَ ويبطل المقصود منه، وفساد الصداق وبدل الخلع لا يفسدان المقصود منهما، وأما الكتابة، فإنها تنفصل عن الخلع والصداق من وجه آخر، وهو أن العبيد جميعهم ملك المولى، فكان صدورهم بالإضافة إلى جانب السيد عن ملك واحد.
وهذا تخييل لا حاصل له؛ فإن العبيد إذا قبلوا الكتابة، فهم متفرقون في شق القبول، والعقود متعددة بالإضافة إليهم، وإذا صححنا الكتابة، فالعقد في كل واحد منفرد بحكمه، كما سنوضح تفصيله في التفريع، إن شاء الله تعالى.
وما ذكره هذا القائل من كون العوض ركناً في عقد المعاوضة لا يفيد حاصلاً فيما هو مطلوب المسألة؛ فإن الجهالة تُفسد الصداقَ وبدلَ الخلع كما تفسد البيعَ، وكذلك القول في الكتابة، فلا خير في تخييلات لا تفضي إلى الفقه المطلوب مع استواء الأصول في اشتراط الإعلام، فهذا حاصل ما ذكره الأصحاب في أصل المذهب.
12498- ثم اشتملت الطرق على ما أتبرّم بنقل مثله، فقال قائلون: البيع فاسد، والكتابة خارجة على القولين، وقال آخرون: الكتابة صحيحة، قولاً واحداً، والبيع خارج على القولين.
وكل ما يذكر في ذلك منشؤه مسلكان:
أحدهما: التسوية بين المسالك، وهو الوجه لا غير، والثاني: اعتقاد الفَرْق بين البيع وبين بدل الخلع والصداق، مع الميل إلى أن البيع أولى بالفساد، واعتقاد الفرق بين الكتابة وغيرها، مع الميل إلى تصحيح الكتابة.
ثم إذا فرعنا على فساد الكتابة، فسيأتي على الاتصال بهذا الفصل بيان حكم الكتابة الفاسدة، وإن صححنا الكتابة، ففي كيفية توزيع العوض المسمى على المكاتبين قولان، ذكرهما الصيدلاني: أظهرهما-وهو الذي قطع به معظم الأئمة- أنه يوزع المسمى على أقدار القيم، حتى لو كانت قيمة الواحد مائة، وقيمة الآخر مائتين، وقيمة الثالث ثلاثمائة، فعلى من قيمته مائة السدس، وعلى من قيمته مائتان الثلث من العوض المسمى، وعلى من قيمته ثلاثمائة النصف.
والقول الثاني- أن العوض موزع على عدد الرؤوس من غير نظر إلى تفاوت القيم، وهو ضعيف، ولكن نقله الصيدلاني، وهو موثوق به، ووافقه القاضي في النقل، ثم طردا حكاية هذا القول في الصداق وبدل الخلع، فأما البيع، فلم يتعرضا له، ويبعد كل البعد التوزيع على رؤوس الباعة من غير نظر إلى قيم عبيدهم، وإن طرد القول الضعيف في البيع طارد، لم يبعُد، لو صح هذا القول، ولكنه مما يجب القطع بفساده.
وينشأ من هذا أنا إن كنا نعتقد أن التوزيع على الرؤوس، فيجب أن نقطع بصحة هذه العقود لارتفاع الجهالة، وإن حكمنا بالتوزيع على القيم، فعند ذلك تختلف الأقوال، ونجري الطرق على ما رسمناها، ولا عود إلى هذا القول. ولا تفريع عليه.
12499- ثم أول ما نفرعه بعد تمهيد الأصل أنا إذا صححنا الكتابة، فكل مكاتب مخاطب بمقدار حصته من غير مزيد، وإذا أدى واحد منهم حصته عَتَق، وقال أبو حنيفة: لا يعتق واحد منهم ما بقي على الواحد منهم درهم. واعتقد أن عتق جميعهم يحصل معاً، وذهب في هذا مذهب التعليق المحض؛ فإن المولى قال لهم: إذا أديتم، فأنتم أحرار.
وهذا ذهول عن وضع الكتابة الصحيحة، وقد ذكرنا أن التعليق غيرُ معتبر في مقتضى الكتابة الصحيحة، ودللنا عليه بأنه لو قال-والمكاتب واحد بعد ذكر النجوم- إذا أديتها، فأنت حر، لم يتوقف العتق على الأداء، بل قد يحصل بالإبراء عن نجوم الكتابة، فإذا كنا لا نرعى حقيقة الأداء والمكاتب واحد مع التصريح بتعليق العتق بالأداء، فكيف نرعى ذلك في تعدد المكاتبين.
فإذا وضح أن واحداً منهم لا يخاطَب بما على أصحابه، ولا يطالب إلا بحصته، فلو جاؤوا عند محِلّ النجم بمقدار من المال وأَدَّوْه، ثم اختلفوا: فقال بعضهم-وهو القليل القيمة- أدينا ما أدينا على عدد الرؤوس، وقال الكثير القيمة: بل أديناه على أقدار القيم، وكانت أملاكنا في المؤدى ثابتة على هذا النسق، فقد حكى بعض المصنفين نصين مختلفين في ذلك:
أحدهما: أنه يُصدق من يدعي التسوية مع يمينه.
والثاني: أن المصدّق منهم من يدعي التوزيع على أقدار القيم، ثم في هذا التصنيف أن الأصحاب اختلفوا: فمنهم من أجرى في ذلك قولين، ومنهم من نزّل النصين على حالين. قال: إن كان هذا الاختلاف في النجم الأخير، ولو صدّقنا القليل القيمة، لكان له شيء مما أداه يحتاج المولى إلى رده، فلا يُصدق من يدعي التسوية؛ فإن ظاهر الأداء يدل على اعتقاد الوجوب فيه، وعلى هذا ينزل النص الذي يقتضي تصديق من يدعي التوزيع على أقدار القيم.
وحيث قال: يُصدق مدعي التسوية، أراد إذا كان ذلك في أوساط النجوم أو في أوائلها، بحيث لو فضَل عن مقدار النجم الحالّ فاضل في حق القليل القيمة، فهو محمول على تعجيل مقدارٍ من النجم المنتظر، والذي ارتضاه الأئمة تصديق من يدعي التسوية قطعاً للقول، ولم يعرفوا اختلاف النص، واستمسكوا بما يجب القطع بأنه أصل الباب. وقالوا: المسألة مفروضة فيه إذا جاءوا بالنجم وأيديهم ثابتة عليه، فظاهر اليد في التداعي يقتضي استواءهم في الأيدي قطعاً. وهذا يقتضي تصديقَ من يدعي التسوية، فيجب إجراء هذا.
ولست أُنكر اتجاه خيال في النجم الأخير إذا كان يفضل-لو حملنا على التسوية في حق القليل القيمة- فاضل ويحتاج إلى استرداده. والعلم عند الله.
12500- ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو أدى البعض من هؤلاء النجمَ عن البعض، فهذا على التحقيق تبرع منه، وسنذكر أن تبرع المكاتب إن انفرد به مردود، وإن صدر عن إذن السيد، ففيه قولان، و سيأتي استقصاء ذلك، فإن كنا نصحح التبرع بإذن المولى، فإذا أتى واحد منهم بما ليس عليه، وأداه ذاكراً أن هذا عن أصحابي، فقبول السيد فيه بمثابة إذنه في التبرع على الأصح، وأبعد بعض أصحابنا، فاشترط سوى ظاهر القبض إذناً، وهذا ليس بشيء.
فإن فرعنا على بطلان التبرع-وإن صدر عن إذن المولى- فإذا أدى البعضُ الدينَ عن البعض، ثم اتفق أن المؤدي عتق، قبل أن يسترد ما أداه من المولى-تفريعاً على رد التبرع وإن أذن المولى فيه- فالذي نص عليه الشافعي أنه لا يملك الرجوع بعد العتق، ونص على أن المولى لو جنى على المكاتب، فعفا المكاتب، وأبطلنا العفو على مذهب ردّ التبرع، فلو عتق المجني عليه العافي قبل قبض الأرش، فإن له مطالبة السيد بالأرش بعد العتق، فحصل قولان:
أحدهما: أن تبرعه مردود وإن عتق؛ لأن الحجر عليه كان ثابتاً حالة التصرف؛ فيجب رد التصرف من غير نظر إلى ما تُفضي إليه العاقبة، والقول الثاني- أن التبرع ينفذ إذا اتصل بالعتق؛ فإن الحجر كان لحق الله في العتق، وقد حصل العتق.
والصحيح عندنا بناء هذين القولين على تصرفات المفلس في اطراد الحجر عليه؛ فإنا نقول: إن مست حاجة المضاربة إلى نقضها نقضناها، فإن أُبرىء وانفك الحجر، ففي نفوذ التصرفات التي جرت في حالة الحجر قولان، وقول الصحة خارج على الوقف، فالمكاتب فيما نحن فيه يخرج تبرعه على هذه القاعدة.
ثم الذي اقتضاه النص، وأطبق عليه الأصحاب أن المؤدي عن أصحابه إذا استرد من المولى-لما تبين له الفساد- ثم عَتَق، فالعتق مسبوق بانتقاض التبرع، فالانعطاف على ما مضى محال، وكذلك القول في العفو عن أرش الجناية إذا نقضه العافي وطالب بالأرش واستوفاه، وكأنا على قول الوقف، إنما نقف الأمر إذا لم ينقض التبرع، وجريان القولين فيه إذا لم يتفق نقضٌ، ولو طالب العافي بالأرش بناء على فساد العفو، أو طالب المؤدي عن أصحابه برد ما أدى عنهم، ولم يتفق تغريم في الأرش ولا استرداد، فهذا فيه احتمال مأخوذ من فحوى كلام الأصحاب.
12501- ثم قال:"ولا يجوز أن يتحمل بعضهم عن بعض الكتابة... إلى آخره".
هذا متصل بمكاتبة العبيد في عُقدة، ومضمون الفصل من وجه لا يختص بتلك الصورة، فنقول: ضمان مال الكتابة لا يجوز، وقد فصّلنا ذلك في كتاب الضمان، وكذلك لا يصح الرهن به، والسبب فيه أنه ليس مستقراً، وليس آيلاً إلى الاستقرار، وضمان الثمن في زمان الخيار في البيع صحيحٌ؛ لأنه مُفضٍ إلى القرار في عقد موضوعه للزوم.
قال القاضي: كما لا يجوز ضمان نجم الكتابة، فكذلك لا يجوز الاستبدال عنه؛ فإن الاستبدال أعظم وقعاً من الضمان، بدليل تعليل أن ضمان المسلم فيه صحيح والاعتياض عنه باطل، فالاستبدال يقتضي مزيداً في الاستقرار لا يقتضيه الضمان. فإذا بطل الضمان لعدم القرار بطل الاستبدال.
ولو كاتب جمعاً من العبيد، وشرط أن يضمن البعض منهم عن البعض، فالمنصوص عليه أن الكتابة فاسدة، ووجهه بيّن؛ فإن الضمان فاسد؛ فإذا فسد شَرْطُه تفسد الكتابة بالشرط الفاسد.
وقال مالك: يصح الشرط والعقد، وأضيف مذهبه إلى الشافعي قولاً في القديم. والممكن في توجيهه أن هذا الضمان من مصلحة هذا العقد الذي وصفناه، إذا أراد المولى ارتباط بعض المكاتبين بالبعض، ونحن قد نمنع ضماناً على قياس، ثم نجيزه لمصلحة العقد، وهذا بمثابة إفساده ضمان المجهول، والضمان عن المجهول، ثم صححنا ضمان الدَّرَك مع اشتماله على الجهالتين لمسيس الحاجة إليه في تأكيد مقصود العقود.
وهذا بعيد، لا معول عليه. وقد نجز الغرض في مكاتبة العبيد.
فصل:
قال:"ولو كاتب عبداً كتابة فاسدة، فأدى عُتق... إلى آخره".
12502- مقصود الفصل بيانُ حكم الكتابة الفاسدة، وأول ما يجب افتتاحه تصوير الكتابة الفاسدة: والقولُ الكلي فيه أن الكتابة إذا صدرت إيجاباً وقبولاً ممن يصح عبارته، وظهور اشتمال الكتابة على قصد المالية، ولكنها لم تكن مستجمعة لشرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة.
ثم من أحكامها أن المكاتب لو أدى ما شرط عليه، عَتَق، واستتبع الكسبَ والولدَ، فتنزل الكتابة الفاسدة منزلة الصحيحة فيما ذكرناه. وعند ذلك يتضح تمييز الفاسد في هذا النوع عن الفاسد في سائر العقود؛ فإن الكتابة الفاسدة أفضت إلى تحصيل مقصود الكتابة الصحيحة وخاصّيتها، أما المقصود، فالعتق، والخاصية استتباع الكسب والولد.
وسبب هذا ما نبهنا عليه في صدر الكتاب عند تمهيد القواعد، حيث قلنا: إن العتق إذا كان يحصل لا محالة عند فرض الأداء، والكتابةُ إنما تصح لأجل العتق.
وإلا فقياسها بالنسبة إلى قياس الأصول الفساد، فإذا كنا نصمحح صحيحها ذريعة إلى العتق، ثم حصل العتق في الفاسدة، فلا يبعد أن يثبت حكمُ الصحة لتتم الذريعة.
12503- ثم تمتاز الكتابة الفاسدة عن الصحيحة من وجوه: منها- أن الكتابة الصحيحة لازمة من جانب المولى، ما لم يَعْجِز المكاتَب، أو يُبْدِ امتناعاً، كما سيأتي إن شاء الله، والكتابة الفاسدة جائزة في حق المولى، فمهما أراد فَسَخَها، وأثرُ فسخِه أن العتق لا يحصل بعد فسخها بصورة أداء النجم المسمى، وهذا قد يغمض تعليله؛ فإنا إن حصلنا العتق بطريق التعليق، ففسخ التعليق ممتنع، وإن بنينا الأمر على الجواز، فقد خرمنا التعليق، وتنعطف المسألة على نفسها، ولكن الممكن في ذلك ما قررناه في الأسلوب وغيره من أن هذا تعليق في ضمن معاوضة، وكأن الحاصل يؤول إلى أن التعليق غيرُ مبتوت، والمعلِّق يقول: إن أديت، فأنت حر، ما لم أرجع؛ والعتق على هذا التقدير معلق بصفتين: إحداهما- الأداء، والأخرى- عدم الرجوع، ولسنا نطيل ذكر هذا، وقد استقصيناه في الخلاف على أقصى الإمكان.
ثم يترتب على ما ذكرنا أن السيد إذا مات في الكتابة الفاسدة، قبل حصول العتق، فالكتابة تنفسخ بموته، والأداء من الورثة لا يُثبت العتق، ولا حاجة إلى تعليل ذلك بجواز الكتابة، والبناءِ على أن العقد الجائز ينفسخ بالموت، بل المعتمد أن العتق يحصل بالصفة، وقد قال المولى: إن أديت إليّ فأنت حر، أو" إن أديت" مطلقاً، والمطلق محمول على الأداء في حياة المعلِّق، وهذا سبيل جُملة التعليقات الصادرة من الأحياء؛ فإنها محمولة على مأ يوجد في حياة المعلِّق.
قال الشافعي في التعبير عن هذا المعنى:"إذا مات السيد المكاتِب كتابة فاسدة، فجاء العبد بالنجم المشروط، لم يحصل العتق؛ لأن الوارث ليس هو القائل: "إن أديت فأنت حر".
أما موت المكاتَب، فلا يغمض أمره، وسنذكر أن موته في الكتابة الصحيحة يوجب انفساخ العقد، فما الظن بالفاسدة.
12504- ومن خصائص الكتابة الفاسدة أن المكاتب إذا أدى النجم المشروط وعتق، فما أداه مردود عليه، والرجوع بقيمة رقبته عليه بعد حصول العتاقة، فالسيد والمكاتب بعد حصول العتاقة يترادّان، فإن كان ما قبضه المولى من جنس قيمة العبد، فقد تجري أقوال التقاص، كما ستأتي مشروحة إن شاء الله.
ثم ما ذكرناه من التراجع في هذا الطرف يضاهي الرجوع إلى مهر المثل، ورد العوض المقبوض في الخلع، فإن قيل: الخلع صحيح والبدل فاسد، والكتابة فاسدة في نفسها، قلنا: العتق نافذ هاهنا أيضاً، وتعليقه صحيح، فيصح تعليق العتق بالعوض الفاسد، ولا فرق، غير أن الخلع ثَمَّ إذا تم، نجز، ولا مستدرك، والكتابة لو انعقدت على الصحة، لم ينتجز فيها الغرض؛ وهي قابلة للفسخ بعد الصحة، فالوضعان مختلفان في البابين. والسبب في ذلك أن الكتابة تستدعي مَهَلاً وانشغالاً بالكسب، وهو عرضة للرفع، ومثل ذلك لا يتصور في الخلع.
12505- ثم الذي يجب البوح به أن الكتابة الفاسدة تُسلِّط العبد على الاستقلال بالكسب، وهذا معنى قول الأصحاب: إذا عَتَق، تبعه الكسب. أي ما حصّله من الكسب استحقه على اللزوم عند وقوع العتق، وترتب على هذا لا محالة سقوط النفقة عن المولى، كما في الكتابة الصحيحة، فاستقلاله بنفسه يعارض سقوطَ نفقته عن مولاه، وهذا واضح في معناه.
وذكر الأصحاب استتباعَ الأولاد، كما ذكرناه في الكسب، وقال الشيخ أبو علي: رأيت للشيخ أبي زيد أن المكاتب كتابة فاسدة في استتباع الأولاد بمثابة المدبر والمعلَّق عتقه بصفة، وقد ذكرنا قولين في أن التدبير هل يتعدى من الأم إلى الولد، وهذا في ظاهر الأمر له اتجاه؛ فإن الكتابة الفاسدة إنما يحصل العتق فيها من جهة التعليق، فإذا كان يجري في ولد المعلَّق قولان، لزم جريانهما في المكاتب كتابة فاسدة.
وقد يعتضد هذا بأن الأولاد ما قيل فيهم: "أنتم أحرار إذا أدى أبوكم النجم"، وهذا يناظر ما حكيناه من قول الشافعي بعد موت السيد: إن الوارث ليس هو القائل: "إن أديت، فأنت حر".
وهذا عندنا ذهاب عن سر المذهب في أولاد المكاتب؛ فإنا لا نحكم بعتق ولد المكاتب كتابة صحيحة إلا على مذهب استتباع الأكساب؛ فإن ولد المكاتب من جاريته بمثابة كسبه، غير أنه لا يبيعه، فإذا عَتَق المكاتَب واستتبع الكسبَ، استتبع ولدَه، وإذا استتبعه في زمان استقرار عتقه، عَتَق عليه، فإذا كان هذا مأخذ القول في ولد المكاتب-ثم الكسب يتبع المكاتب في الكتابة الفاسدة- فيلزم لا محالة أن يتبعه الولد، ويعتِق عليه، وسيأتي شرح هذا في أولاد المكاتبين. ولم أر أحداً من الأصحاب تشبث بمنع استتباع الكسب في الكتابة الفاسدة.
ويترتب على استتباع الكسب أمران لابد منهما:
أحدهما: سقوط النفقة عن المولى كما قدمناه.
والثاني: أن المكاتَب كتابةً فاسدة يعامِل المولى معاملة المكاتَب كتابة صحيحة، هذا من ضرورة استقلاله بنفسه.
وذكر الأئمة الخلاف في حكمين متعلقين بالاستقلال:
أحدهما: أن المكاتب كتابة صحيحة يسافر إن أراد الاستقلال، والمكاتب كتابة فاسدة هل يسافر؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يسافر لاستقلاله بالكسب.
والثاني: لا يسافر؛ فإن الخروج عن ضبط السيد بالكلية-والكتابة ليست لازمة في حقه- بعيدٌ، فإن أذن، لم يخفَ الحكم، وقد يملك العبد نوعاً من الاستقلال بالكسب، ثم لا يسافر كالعبد الناكح بإذن مولاه؛ فإنه يصرف أكسابه إلى المهر ومؤن النكاح، ولا يسافر.
12506- ومما اختلف الأصحاب فيه أن سهماً من الصدقة مصروف إلى المكاتبين على الصحة، وهل يجوز صرفه إلى المكاتب كتابة فاسدة؟ فعلى وجهين، ذكرهما القاضي:
أحدهما: أنه يجوز؛ بناء على استقلال المكاتب بالكسب؛ توصلاً إلى تحصيل العتق، والصدقاتُ من جهةٍ توصله إلى تحصيل العتق. والوجه الثاني- أنه لا تصرف الصدقة إليه؛ لأن الجهة غيرُ لازمة من جانب السيد، فلا تقع الثقة بقبض المكاتب.
12507- ومما يتعلق بأحكام الكتابة الفاسدة أن الشافعي قال: من أعتق المكاتب كتابة صحيحةً عن كفارته، لم يقع العتق عن جهة الكفارة. وهذا مشهور من المذهب، ولو أعتق المكاتَب كتابة فاسدة عن كفارته، فالذي كنا ننقله مطلقاً، أن العتق ينصرف إلى كفارةِ المعتِق، وقد حكى الشيخ أبو علي قَطْع القول بهذا عن نص الشافعي؛ فحصلت الثقة التامة.
ثم قال الشيخ أبو علي: مهما أعتق السيد المكاتب كتابة فاسدة، نفذ إعتاقه، وكان ذلك فسخاً منه للكتابة وقطعاً لها، حتى لا يستتبع كسباً ولا ولداً؛ فإنا لو قلنا: يتبعه الكسب والولد، لكان العتق منصرفاً إلى جهة الكتابة، ويستحيل على المذهب براءة الذمة بالإعتاق عن الكفارة مع وقوع العتق عن جهة الكتابة، فالوجه حمل العتق على فسخ الكتابة الفاسدة ورفعها.
والذي يحقق ما ذكره أن الكتابة الفاسدة عند حصول العَتَاقة تلتحق بالكتابة الصحيحة في لزوم الاستتباع، ويفارقها ما ذكرناه من الجواز، فلو استتبع الكسبَ مع انصراف العتق إلى الكفارة، للزم مثل ذلك في الكتابة الصحيحة لا محالة.
قال الشيخ: لما خطر لي ما ذكرته في الكتابة الفاسدة من أن الكسب والولد لا يتبعان عند الإعتاق، عرضت ذلك على الشيخ القفال، فاستحسنه، وأقرني عليه، ولم ير غيره.
وهذا نجاز الحكم في ذلك، وفي جنون المولى في الكتابة الفاسدة، وجنون المكاتب فصلٌ ذكره الشافعي على الاتصال بهذا.
فصل:
قال: "ولو لم يمت السيد ولكن حُجر عليه أو غُلب على عقله... إلى آخره".
12508- مضمون الفصل الكلام في الجنون إذا طرأ على الكتابة. فلا تخلو الكتابة إما أن تكون صحيحة أو فاسدة، فإن كانت صحيحة، فلا شك أنها لا تفسخ بالجنون، فإن جُن المولى، فالكتابة لازمة من جهته، فلا يؤثر الجنون في رفعها، وإن جن المكاتب، فالكتابة وإن كانت جائزة من جانبه، فهي مُفضية إلى اللزوم، والبيع في زمان الخيار لا ينفسخ بطريان الجنون على المتعاقدَيْن، أو على أحدهما؛ لإفضاء البيع إلى اللزوم.
ولكن يترتب على الجنون الطارىء في الكتابة ما نصفه، فنقول: إن قبض المولى في حال الجنون النجمَ، لم يصح قبضُه، ولم يترتب عليه العتق؛ فإنه لا يصح القبض منه، ولو تلف في يده ما أقبضه المكاتَب، فلا ضمان؛ فإن المكاتَب هو الذي ضيّع المال بوضعه في يد مجنون، ولو قبض القيّم النجمَ، تعلق الحكم بقبضه، وترتب على النجم الأخير حصولُ العَتاقة.
وإن سلّم المكاتب إلى المولى المجنون، فله أن يسترده منه؛ فإن حصوله في يده لم يُفده أمراً، بل هو متعرض للتَّوى والضياع.
ولو جُن المكاتَب والمولى عاقل مستقل بقبض النجم من المجنون، قال الأصحاب: القبض صحيح، وعوّل المحققون في تعليل ذلك على أن قبض النجم مستحَق، ولو أخذه المولى من غير إقباضٍ من المكاتب، لوقع القبض موقعه، فوجود الإقباض وعدمِه من المكاتب بمنزلة.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان: فإن عسُر على السيد الوصولُ إلى حقه إلا من جهة قبض ما يصادِف، فله ذلك، وإن أمكنه مراجعةُ من ينصبه القاضي ناظراً للمكاتَب، فلا وجه لاستبداده بالقبض عندنا، ولو استبد، لم يصح، وإذا كان لا يصح استبداده، فلو أقبض المجنونُ، لم يكن لإقباضه حكم، وفي كلام القاضي وغيره ما يدل على أن المولى يقبض النجم من غير فرض قيّم؛ ولعل الأئمة أثبتوا للمولى في هذا المقام حقَّ القيام بما يُحصِّل العتاقة، وهذا بعيد إن ظنه ظان. ولا وجه إلا ما ذكرناه من مراجعة القاضي، أو نصب قيم من جهته. وهذا كله في طريان الجنون على الكتابة الصحيحة.
12509- فأما إذا كانت الكتابة فاسدة، وفرض طريان الجنون عليها، فظاهر كلام الشافعي في الجنون الطارىء على المولى أنه يتضمن انفساخ الكتابة كالموت، وقد ذكرنا أن موت المولى يوجب انفساخ الكتابة الفاسدة، وظاهر ما نقله على الاتصال بذلك أن المكاتَب لو جُنّ والكتابةُ فاسدة، لم تنفسخ الكتابة بجنونه، وهذان النصان متعاقبان على التضاد في سطر واحد من غير تنبيهٍ على التردد، واختلاف القول فيه، وهذا مشكل في نظم الكلام جداً.
والرأي أن نذكر المذهب في هذا، ثم نتكلم على النص، فنقول: إذا طرأ الجنون على أحدهما في الكتابة الفاسدة، فحاصل المذهب ثلاثة أوجه: أحدها: أن الكتابة لا تنفسخ، وهذا هو الأقيس والأصح؛ فإن الكتابة الفاسدة وإن كانت جائزة، فمصيرها إلى اللزوم، كما ذكرناه في البيع في زمان الخيار. والوجه الثاني- أن الكتابة تنفسخ بطريان الجنون إما على السيد وإما على المكاتب، فإنها جائزة من الطرفين، والعتق لا يحصل بها، وإنما يحصل بجهة التعليق.
والوجه الثالث: أن الكتابة تنفسخ بجنون المولى، ولا تنفسخ بجنون المكاتب، وهذا ظاهر النص، فإن الكتابة الصحيحة جائزة في جانبه، ثم لا تنفسخ الكتابة الصحيحة بجنونه. هذا تصرف الأصحاب في المذهب.
فأما الكلام على النص؛ فللأصحاب فيه طريقان: منهم من قال: النص محمول على الكتابة الصحيحة، ووجه الفرق بين المولى والمكاتب عند هذا القائل أن المولى لو قبض في جنونه، لم يصح القبض منه، كما قدمناه، ولو فرض الجنون من المكاتَب، فقبْضُ المولى منه صحيح. وهذا قد فصلناه.
وما ذكره هؤلاء مستقيم في المذهب. ولكنه بعيد عن نظم اللفظ؛ فإن الشافعي عطف هذا على أحكام الكتابة الفاسدة، فذكر الموتَ في الكتابة الفاسدة، ورتّب عليه الجنون، فبعُد حمل الجنون على ما جرى في الكتابة الصحيحة، فلا محمل للنص إلا الحكم بانفساخ الكتابة الفاسدة إذا طرأ الجنون على المولى بخلاف ما إذا طرأ الجنون على المكاتب، وهذا أحد الوجوه، والفرق عسير.
12510- ومن تمام الكلام في ذلك أنا إذا حكمنا بانفساخ الكتابة على معنى أن العبد لا يستقل إذا أفاق بكسبه، فلو أدى ما شُرط عليه، ففي حصول العتق وجهان ذكرهما الأصحاب:
أحدهما: أن العتق لا يحصل؛ فإن التعليق في الكتابة الفاسدة تبعٌ للكتابة وحكمها، فإذا زالت قضية الكتابة، تبع زوالَها زوالُ التعليق، كما لو فسخ السيد أو المكاتب الكتابة من غير فرض جنون؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الكتابة الفاسدة إذا فسخت، لم يحصل العتق بالأداء بعد فسخها.
ومن أصحابنا من قال: يحصل العتق بالأداء بعد ارتفاع مقتضى الكتابة؛ فإن التعليق قائم، وليس كما لو فسخ؛ فإن فسخه يتضمن رفع التعليق؛ إذ حاصل التعليق في الكتابة الفاسدة تعليق على صفتين: إحداهما- الأداء. والأخرى- عدم الرجوع.
وإذا زالت الكتابة بالجنون، لم يحصل فيه الرجوع عن التعليق.
وهذا خيالٌ لا حاصل وراءه؛ فإن ما ذكرناه في التعليق على عدم الرجوع ضِمْن يحكم الفقيه به، وقد لا يهجس في نفس المولى، وهذا الحكم يزول بالجنون.
فإن قلنا: العتق لا ينفذ، فلا كلام، وإن قلنا: العتق ينفذ، فالوجه القطع بأنه لا تراجع، فإن التراجع يتلقى من مالية الكتابة الفاسدة، وقد زالت، فبقي التعليق المحض.
ومن أصحابنا من أثبت الرجوع على العبد بالقيمة، ومساقُه أن يتبعه الكسب، وهذا في حكم البناء على ما مضى في الحكم بارتفاع الكتابة الفاسدة، فإنا إذا أبقينا فيها اتباع الكسب والرجوعَ بالقيمة-والعتقُ قد حصل- فلم نرفع من الكتابة الفاسدة شيئاً.
12511- ثم نقل المزني لفظاً عن الشافعي، فقال: قال الشافعي: "ولو كان العبد مخبولاً، عَتَق بأداء الكتابة، ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء". فظاهر ما نقله أن العبد كان مخبولاً وقت العقد.
وروى الربيع هذه الصورة بهذه اللفظة، وقال: يتراجعان بالقيمة، وهذا يتضمن كونَ الكتابة الجارية مع المجنون كتابة فاسدة يتعلق بها التراجع عند حصول العتق، وهذا على نهاية الإشكال؛ فإن المجنون لا عبارة له؛ وإذا لفظَ، فلا حكم للفظه، وقبوله لا يثبت قضيةً في المعاوضة، لا على الصحة ولا على الفساد.
وقد ذكرنا أن الكتابة الفاسدة هي التي تجري بين شخصين هما من أهل العبارة، ويتخلف عن العقد شرط من شرائط الصحة، أو يشترط فيه زائد مفسد، أو يفسد عوضُها، فأما إذا كان تعلق العقد بلفظ مجنون، فيستحيل أن يكون للفظه حكم.
وقد أوضحنا أن الكتابة الفاسدة تضاهي الكتابة الصحيحة في كثيرٍ من المقاصد، ولو أطلق الفقيه الصحةَ في تلك المقاصد، لم يكن لفظه حائداً عن سَنَن الصواب، فالعتق يحصل صحيحاً، والاستتباع يقع صحيحاًً، والاستقلال يثبت كذلك على صفة الصحة. فهذه أحكام صحيحة، فكيف يقتضيها لفظُ مجنون؟ نعم، لو حصل العتق بتعليق المولى، فليس ذلك بدعاً، ولكن النص الذي نقله الربيع صريح في إثبات الأحكام، نقله الصيدلاني، والعراقيون، وكلُّ موثوق به في المذهب، والذي نقله المزني على مخالفة منقول الربيع.
قال ابن سريج، فيما نقله الصيدلاني: والصحيح ما نقله الربيع، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني.
ومن أصحابنا من قال: في المسألة قولان.
وقد ظهر عندنا أن ابن سُريج لم يصحح ما رواه الربيع فقهاً، ولكنه رآه أوثق في النقل. والمزني نقل ما يستدّ في الفقه، فتبين أهل العناية بالنقل أن ما نقله الربيع أصح، وما يستدّ على القياس-حتى لا يسوغ غيره- ما ذكره المزني.
12512- ثم أجمع الأصحاب النقلة منهم والفقهاء أن الكتابة إذا جرت مع الصبي المميز، فهي تعليق محض، لا يتعلق بعقباها تراجع، ولا يثبت لها حكم من أحكام الكتابة الفاسدة.
ثم أخذ متكلفون-فيما نقله الصيدلاني- في الفرق بين الجنون والصبا، ورأوا الجنون عارضاً متعرضاً للزوال، والصبا أصل الفطرة. ومن انتهى إلى هذا الحد، فقد خرج خروجاً لا يستحق فيه المناطقة؛ مع ما تمهد في الشرع من سقوط أقوال المجانين، وللصبي أقوالٌ تصح وفاقاً، وفي عباراته في العقود اختلاف العلماء، ولا شك في صحة عقله، وانتظام كلامه.
وإنما أكثرت في ذلك ليثق الناظر إذا انتهى إليه بما نقلته.
ثم اعلم أن الشادي في الفقه لا يستريب في ميل منقول الربيع عن قاعدة الفقه.
وقال بعض أصحابنا: ما نقله الربيع محمول على الجنون الطارىء على كتابة فاسدة، وما نقله المزني محمول على الجنون المقترن بالعقد، وهذا الكلام منتظم في وضعه، ولكنه مخالف لما نقله الربيع نصاً.
فصل:
قال: "ولو كاتبه كتابة صحيحة، فمات السيد، وله وارثان... إلى آخره".
فصل:
12513- صدْرُ هذا الفصل في منازعةٍ مفروضة بين عبدٍ يدعي الكتابة، وبين وارثين، ولابد من تمهيد أصل في مقدمة الفصل، ثم نرجع بعده إلى مقصود الفصل.
فنقول: إذا كاتب الرجل عبداً ومات، وخلّفه مكاتباً، وترك ابنين معترفين بالكتابة، فهذا يتعلّق بأطراف الكلام في مكاتبة بعض العبد، وسيأتي فيها باب معقود، ولو لم نلتزم الجريان على ترتيب (السواد)، لأخرنا هذا الفصل إلى ذاك الباب؛ لانعطافه في جوانبه على مضمون ذلك الباب، ولكن نتبع الترتيب، ومسلكَ الشارحين، ثم ما نرى إضافته إلى ذلك الباب، أضفناه، فنقول:
العبد مكاتب بإقرار الوارثَيْن، وغرضنا من هذه الصور أن أحد الابنين لو أعتق نصيبه من المكاتب، نفذ عتقه إجماعاً. ولو أبرأه أحد الابنين عن حصته من النجوم برىء، وعَتَقت حصته المبرىء عندنا خلافاً لأبي حنيفة؛ فإنه لم يحكم بالعتق ما بقي عليه درهم، ووافق في نفوذ العتق فيه، فأما إذا استوفى أحد الابنين بأداء حصته من النجوم، فتصوير الاستيفاء لا يتأتى شرحه الآن، فنضيف هذا الطرف إلى الباب الذي سيأتي في كتابة بعض العبد، إن شاء الله.
فإذا ثبت نفوذ العتق- إذا صرح به أحدهما- وثبت من مذهبنا نفوذُه بالإبراء، كما ذكرناه، فهل نحكم بسريان العتق إلى نصيب الابن الذي لم يُعتق ولم يُبرىء؟ فعلى قولين:
أحدهما: لا يسري؛ لأن العتق ينفُذ على حكم الكتابة، وكأن المعتِق هو المورِّث، والوارث نائب عنه، وصدَرُه عمن هو في مرتبة الخلافة والنيابة.
والقول الثاني- أن العتق يسري إلى نصيب الابن الذي لم يبرىء، ولم يُعتق؛ لأن المكاتب مملوك للورثة إلى أن يَعتِق، وعتقُ المعتِق صادرٌ عن ملكه، والخلافةُ تقتضي نزول الوارث في ملك رقبة المكاتب منزلة الموروث، ثم العتق اقتضاؤه الملك، والدليل على ثبوت الملك أن من زوّج ابنته من مكاتبه، ثم مات قبل عتق المكاتب، فالزوجة ترث شيئاً من رقبة الزوج، وينفسخ النكاح بذلك؛ ولولا حصول الملك في رقبة المكاتب للمولى، لما انفسخ النكاح.
ثم قال القاضي: الأَوْلى بناء القولين على أن الدَّين هل يمنع حصول الملك للورثة في عين التركة، وقد مهدنا هذا على بيان شافٍ، فالمكاتب مستحَق العَتَاقة في حكم المستغرَق باستحقاق العتق، فيجري قولان في أن الورثة هل يملكون رقبة المكاتب، كما جريا في أنهم هل يملكون أعيان التركة مع تعلق الدين بها؟
ثم قال القاضي: إذا منعنا سريان عتق أحد الابنين، فلا اتجاه لذلك إلا على نفي الملك، وصرفِ العتق إلى حكم النيابة، وهذا القياس يقتضي ألا ينفسخ نكاحُ بنت السيد مع المكاتب، ورأى هذا التخريجَ واقعاً في القياس، ثم قال: إنه مخالف للنص، وما أطبق عليه الأصحاب، فَردَّ نظره إلى بيان احتمالٍ في مسلك القياس.
وما ذكره متجه حسن، لو قلنا: إذا كاتب الشريكان عبداً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، فالعتق يسري، وقد رأيت الطرقَ متفقةً على ذلك، إلا شيئاً غريباً سأذكره في أثناء الفصل، حيث أرى ذكره.
فإذا كنا نقطع بتسرية عتق أحد الشريكين، وإن كان العتق لو سرى متعدياً إلى جزء من مكاتَب، ثم ذكرنا قولين في سريان عتق أحد الابنين، فلا محمل لترديد القول إلا التردد في أن الورثة هل يملكون رقبةَ المكاتب؟
فإن قيل: كيف يستقيم هذا، وقد نفذتم عتقَ الوارث وما استنيب في العتق، وإنما نفذ عتقه لصَدرِه عن ملكه.
قلنا: إذا لم يملك الوارث رقبة المكاتب، ورّثناه نجوم الكتابة، فإن أبرأ، فالإبراء يتضمن العتق، ولا نظر إلى بقاء بعض النجوم عليه للذي لم يبرئه؛ فإن المبرىء أسقط جميع ما يملك، فكان بمثابة المولى إذا أبرأ عن جميع النجوم.
فإن اعترض في هذا المنتهى السؤال عن استيفاء أحد الابنين حظّه، فهذا قد أحلناه مرّةً، ونحن نجدد إحالته؛ فإن في تصوير انفراد أحدهما باستيفاء حصته عُسْراً، سيأتي كشفه، إن شاء الله.
فإن قيل: ما ذكرتموه في الإبراء، فما وجه تنفيذ عتقه؟ قلنا: وجه نفوذه تضمنه الإبراء، والإبراء يقتضي العتق.
12514- فإذا تبين القولان في سريان العتق، فالتفريع عليهما: إن قلنا: لا يسري، فقد حصل العتق في مقدار حصته، ويتعلق بهذا الآن الحكم في الولاء، وأنا أرى تأخيره، ونستوفي تفريع السراية نفياً وإثباتاً، ثم أنعطف على بيان الولاء في الصور، وأسوق ما يتعلق به حتى يُلفى منتظماً غيرَ مبدّد في أثناء المسائل.
ثم إذا لم يسر العتق، بقي الابن الثاني على حصته في الكتابة.
وإن حكمنا بأنه يسري عتقُ أحد الابنين إلى نصيب الثاني، فمتى يسري، وكيف وجه السريان؟
12515- نقدم على هذا أصلاً، وهو أن الشريكين في العبد إذا كاتباه معاً، ثم أعتق أحدهما نصيبه، نفذ العتق، وسرى إلى نصيب صاحبه، قطع الأئمة بذلك، ثم في وقت السريان قولان في الشريكين:
أحدهما: أنه لا يسري العتقُ في الحالة الراهنة؛ فإن في تسريته إبطال الكتابة، ولكنا ننتظر ما سيكون، فإن رق ذلك القدرُ، ولم تَجْرِ الكتابة إلى منتهاها، فإذ ذاك يسري عتق الشريك وإن استمرت الكتابة، وأفضت إلى العتق، فلا سريان. والقول الثاني- إنّ عتق أحد الشريكين يسري في الحال.
وليقع التفريع على قول تعجيل السراية، وهذا القول موجه بمقتضى السراية؛ فإن العتق الساري مقطوع به، فلا يجوز أن يكون مقتضاه في السراية متأخراً على خلاف القياس.
التفريع:
إن حكمنا بأن العتق لا يسري ما لم يرِقّ نصيب الشريك، فالسريان على هذا القول لا يصادف كتابةً ولا ينقضها، فإن شرط نفوذ السراية على هذا القول تقدم ارتفاع الكتابة.
وإن رأينا أن نسرّي العتق في الحال، فهل تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، أم يسري العتق في نصيب الشريك على حكم الكتابة، من غير تقدير انفساخ؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أن الكتابة تنفسخ، ويترتب السريان على الانفساخ.
والثاني: لا تنفسخ الكتابة، بل يسري العتق ويجري، ونصيب الشريك مُقَر على حكم الكتابة.
12516- ونعود إلى إعتاق أحد الابنين الوارثين المكاتَبَ، ونقول: إن نفذنا سراية العتق، فمتى يسري؟ فعلى قولين كما ذكرناه في عتق أحد الشريكين حَذْوَ القُذَّة بالقُذّة، ثم أحد القولين أن العتق لا يسري ما لم يرِق نصيب الابن الثاني. والقول الثاني- أنه يسري في الحال، ثم في انفساخ الكتابة في نصيب الابن الوجهان المذكوران في مسألة الشريكين.
12517- ونحن من هذا الموضع ننعطف على ما تقدم لبيان حكم الولاء، فإن قلنا: لا يسري عتق الابن، بل يقتصر على مقدار حصته في رقبة المكاتب، فالنصيب الثاني مكاتب لا محالة، فإن عتق ذلك النصيب بأداء النجوم، أو بإبراء، أو إعتاق، فالولاء في رقبة المكاتب للميت لا غير، ثم يرث الابنان بولاء الأب، كما مهدناه في قاعدة الولاء، هذا إذا عتق نصيب الثاني أيضاً.
فأما إذا رقّ نصيب الثاني-والتفريع على عدم السريان- فقد انفسخت الكتابة في المقدار الذي رَقَّ، وذكر الأصحاب وجهين في أن الولاء في النصف الذي عَتَق مصروف إلى من؟ فمن أصحابنا من قال: هو للمبرىء من الابنين، لا حظ فيه للذي رق نصيبه، ومنهم من قال: هو مصروف إليهما.
وهذا الذي نقلناه عن الأصحاب كلام مبهم لابد من كشفه، فنقول: إذا انفسخت الكتابة في نصيب أحد الابنين بأن رَقَّ لما عجز، فهل نقضي بالانفساخ في نصيب المبرىء منهما؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنا نحكم بانفساخها في ذلك النصيب أيضاً.
والثاني: لا نحكم.
وهذا إشكاله أعظم مما قدمناه؛ فإن العتق إذا نفذ على حكم الكتابة، أو بسبب الإبراء، فلا سبيل إلى استدراك ما نفذ، ولو قلنا: نتبين أن العتق صادف ملكَ المعتِق، والرقَّ المستحق له، لكان هذا خرماً عظيماً للقاعدة، وتبيُّناً في غير موضعه، فإن كل ما نتبيّنه من الأحكام، فلابد وأن نتبين له فيما مضى مقتضياً، ولم يظهر لنا مقتضٍ آخِراً يوجب تبين انفساخ الكتابة. وإنما يجري ذلك في الكتابة ما لم يكن التبعيض بين الوارثين؛ فإن مبنى الكتابة في حياة السيد على نفوذ العتق، أو على ارتداد الجميع رقيقاًً، وكأنّ الإبراء عن بعض النجوم لا يوجب تحصيل شيء من العتق، والآن لما انقسم المكاتب بين الوارثَيْن، فيعتِق، ثم يضاف إلى أحدهما بإبرائه عن نصيب نفسه في النجوم، وهذا لابد من احتماله، وقد يموت والكتابة منشأة في المرض، فيضيق الثلث، ويرق بعض المكاتب، فهذه التغايير لابد من احتمالها.
فالوجه عندنا القطع بأن الكتابة لا يتبين انفساخها في نصيب من أبرأ من قبل أو أعتق، وإذا كان كذلك فالذي رَقَّ يخلص لأحد الابنين؛ إذ لو رددنا ذاك ميراثاً بينهما، لجرّ ذلك محالاً؛ من قِبل أن الذي أبرأ عن نصيبه كان إبراؤه بمثابة استيفائه حقه، فيستحيل أن يستوفي أحدهما على الخصوص حقه من النجوم، ثم يشارك صاحبه فيما يرق.
فقد تحصل مما ذكرناه أن الرقيق مختص بالذي رق عليه، والعتق نافذ عن جهة الكتابة في الذي عَتَق، وإذا كان كذلك، فيجب نسبة الولاء إلى الميت، وقد أوضحنا في قاعدة الولاء أنه لا يورث بل يورث به، وإذا كان كذلك، فالوارث بالولاء من ينتسب بالعصوبة إلى من له الولاء، والابنان جميعاً متساويان في جهة العصوبة من المولى.
ولكن وإن كان كذلك، فللأصحاب خلاف. فمنهم من يجري على القياس الذي نبهنا عليه؛ وقال: الابنان: من رق نصيبه ومن أبرأ مشتركان في الإرث بالولاء، وهذا إنما يُخرَّجُ على قولنا: مَن بعضه حر وبعضه رقيق موروث، وفيه الاختلاف والتفصيل الطويل المذكور في الفرائض.
فتحصّل مما ذكرناه أن الحكم بانفساخ الكتابة في الذي عتق محال، ويجب صرف الولاء فيه إلى الميت، ثم الأصح بعده أنهما يشتركان في الاستفادة بذلك الولاء إن حصلت استفادة.
ومن أصحابنا من قال: يختص بتلك الاستفادة المبرىء؛ فإنا وإن كنا لا نورّث الولاء، فيبعد أن يكون أحد الابنين مستوفياً حقه من الرقبة رقاً، ومشاركاً للثاني في فائدة الولاء، وهذا الوجه وإن كان مشهوراً، فمبناه على استبعاد محض لا حاصل له.
12518- ومما يتعلق بهذا المنتهى أن أحدهما إذا أبرأ-كما صورناه- ولم يتبين في النصيب الثاني بعدُ انقلابٌ إلى الرق، أو جريانٌ إلى العتق، فمن رأى في المسألة الأولى-وهي إذا رق نصيب أحدهما- أن يشتركا في فائدة الولاء، فلا شك أنه يحكم بهذا في هذه الصورة، ومن خصص المبرىء في الصورة الأولى بفائدة الولاء، فهاهنا ماذا يصنع؟ هذا فيه تردد عظيم.
وقد ذكر القاضي وجهين هاهنا، وليس ذلك على تثبت، والوقف بهذا المقام ألْيَقُ: فإن عَتَق النصيبُ الثاني على حكم الكتابة، فالولاء مشترك، يعني الاستواء في فائدته، وإن رَقّ النصيب الثاني، فقد مضى الحكم فيه، وتبين اختلافُ الأصحاب ووجههُ، ولا يتجه عندنا إلا هذا، ولا فائدة في غيره؛ فإنا لا نعقل فيما نحن فيه فائدةً للولاء إلا الإرث-إذا قلنا به في الشخص المبعض- وإنما مجرى الإرث إذا مات الشخص الذي فيه نتكلم، وإذا مات في أثناء الأمر، انفسخت الكتابة في نصفه الثاني، ووقع القضاء بتحقق الرق فيه، فيعود الكلام لا محالة إلى صورة جريان الرق في أحد النصيبين.
فهذا تمام الكشف في ذلك. وجميع ما ذكرنا تفريع على أن العتق لا يسري.
12519- فإن حكمنا بأن العتقَ يسري، فقد ذكرنا في وقت السراية قولين: فإن قلنا: لا يسري العتقُ ما لم يرِقَّ النصيب الثاني، فلا شك أنه إذا رَقّ، ثم عتق بحكم السريان، فالولاء فيما رق للابن المعتِق، أو المبرىء؛ فإن الكتابة انفسخت في ذلك النصيب، وقدرنا نقل الملك فيه إلى المعتق، ثم نفذنا العتق عليه، فله فيه ولاء المباشرة، وأما الولاء في النصف الذي عتق على حكم الكتابة، فيجب القطع بانصرافه إلى المتوفى، ولا يَتَخَيّلُ انفساخَ الكتابة فيه تبيّناً من هو على بصيرة في درك حقيقة هذا الفصل.
ثم يعود خلاف الأصحاب في أن المعتق هل يختص بفائدة الولاء في ذلك النصف، أم يشترك الابنان فيها؟ والأصح اشتراكهما، لما ذكرناه من فصل الانتساب بالعصوبة، وفيه الوجه الآخر.
فأما إذا قلنا: يسري عتقُ المبرىء، أو المعتِق في الحالة الراهنة، فقد ظهر خلاف الأصحاب في أن الكتابة هل تنفسخ فيما يسري العتق فيه؟ فمنهم من قال: إنها تنفسخ، فعلى هذا يرِقّ ذلك النصف، ثم ننقل الملك فيه، ثم نعتقه على المعتِق، ويعود التفريع إلى القول الأول، وهو إذا رأينا انتظار الرق، فرَقَّ، ثم سرى، وأمرُ الولاء على ما مضى في ذلك القسم.
فإن قيل: كيف يتجه فسخ الكتابة، ولا سبيل إلى التسبب إلى فسخها من جهة السادة، ما لم يَعجِز المكاتَب؟
قلنا: إنما يقرب احتمال ذلك لمكان حصول العتق، وإذا حصل العتق، فهو مقصود الكتابة، فكأنا على هذا الوجه لا نمنع فسخ الكتابة بجهة الإعتاق عن غير الكتابة.
وهذا غير سديد، فقد يلزم عليه الحكم بأن إعتاقَ سيدِ المكاتب ابتداءً يوجب فسخَ الكتابة، ثم يجب احتماله لتحصيل مقصود الكتابة.
وقد ينقدح الانفصال عن هذا بأن يقال: الإعتاق تصرف في مقصود الكتابة بالتعجيل، فلا يتضمن فسخاً، والسريان من ضرورته نقل الملك، ورقبة المكاتب لا تقبل الملك مع اطراد الكتابة، والسريان لابد منه، فنضطر إلى نقض الكتابة لتتصور السراية.
هذا إذا قلنا: تنفسخ في ذلك النصيب.
فأما إذا قلنا: لا تنفسخ الكتابة، ويسري عتق المبرىء على حكم الكتابة، فهذا قد يتطرق إليه السؤال؛ فإن السراية من ضرورتها نقلُ الملك إلى من عليه السريان، والمكاتب لا يقبل نقل الملك؛ وقد يُجاب عن هذا بأن كل فعل لا يؤدي إلى فسخ الكتابة، فهو محتمل، وإنما الممتنع تقدير فسخ الكتابة، وسنذكر قولاً قديماً في تصحيح بيع المكاتب على تقدير بقاء الكتابة واطرادها، حتى كأن البيع وارد على النجوم. وهذا مما سيأتي شرحه، إن شاء الله تعالى.
12520- فأما تفريع الولاء على قولنا: إن الكتابة لا تنفسخ مع سريان العتق، فالمذهب الذي يجب القطع به صرفُ الولاء إلى الميت، ثم اشتراك الابنين في فائدة الولاء، ولا يجوز إجراء خلاف؛ فإن الكتابة لم تتبعض بقاء وارتفاعاً، بل حصل العتق في الجميع على حكمها. هذا ما أردنا أن نذكره في الولاء.
12521- ثم مهما حكمنا بانفساخ الكتابة، فلا شك أن قضاياها تزول، ويظهر أمر هذا في الصورة الأخيرة؛ فإذا قلنا: يسري العتق بتقدير رد ذلك النصيب إلى الرق، وفسخ الكتابة، فلا يستتبع مَنْ عَتَقَ الكسبَ والولدَ في النصيب الذي رفعنا الكتابة فيه.
هذا لابد منه.
فلو قال قائل: إذا قدَّرنا رقّاً في ذلك النصيب، فما يخص ذلك النصيب من الكسب والولد لمن؟ أهو لمن يسري عتقه، أم هو للثاني الذي لم يبرىء ولم يُعتِق؟ قلنا: هو للذي لم يبرىء ولم يُعتق؛ فإنا نقدر الرق أولاً، ثم نقدر نقله، وإذا تقدم الرق-وإن لم يكن له زمان محسوس- ثم يترتب عليه النقل، فما يقتضيه الرق لمن حصل الرق في حقه.
وقد تم ما نريد في ذلك. وقد حكينا اتفاق الطرق على أن الشريكين في العبد إذا كاتباه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، سرى عتقه، وإنما تردد القول في وقت السريان، وحكينا اختلاف القول في الوارِثَيْن في أَنَّ عتقَ أحدهما هل يسري، كما مضى، وهذا هو المذهب المعتمد.
وحكى صاحب التقريب قولاً بعيداً-أراه مخرجاً- في أن عتق أحد الشريكين في العبد لا يسري؛ فإنا لو سرّيناه في الحال، لتضمن نقضاً للكتابة، وهذا بعيد، وإن توقفنا إلى انقلاب ذلك النصف رقيقاًً، فهذه سراية بعيدة؛ فإن السريان إذا امتنع حالة الإعتاق لم يجر بعده، والدليل عليه أن من أعتق حصته من العبد المشترك وكان معسراً، ثم أيسر من بعدُ، فالسراية التي رددناها بالإعسار المقترن بالإعتاق، لا ننفِّذْها باليسار الطارىء، فخرج من ذلك تعذر السراية. كيف فرض الأمر.
وهذا متجه في القياس، ولكنه ليس بالمذهب، فلا اعتبار به، ولذلك لم أذكره في أثناء المسائل، فأخرته إلى نجاز ترتيب المذهب.
وقد تم الآن ما أردنا ذكره في إعتاق أحد الورثة، وأحلنا على الباب المنتظر ما وجبت إحالته.
12522- ومما يجب ختم الفصل به أن أحدهما إذا حُمل على قبض نصيبه من النجوم إجباراً عليه-حيث يتصور ذلك، كما سيأتي- فالعتق إذا حصل بهذه الجهة لا سريان له بلا خلاف؛ فإن هذا عتق حصل بسببٍ لا اختيار فيه، وإذا كان كذلك، فلا سريان، والحالة هذه؛ ولذلك قلنا: من ورث البعض ممن يعتق عليه، وعَتَق عليه، لم يسر العتق إلى الباقي، وإن كان الوارث موسراً، فهذا تمام المراد.
12523- ونعود بعده إلى مقصود الفصل، فنقول: إذا مات رجل وخلف ابنين وعبداً، فادعى العبد عليهما أن أباهما كاتبه؛ فإن صدقاه، فالأمر على ما قدمناه.
وإن كذباه، فالقول قولُهما مع اليمين، يحلفان بالله لا يعلمان أن أباهما قد كاتبه، فإن حلفا، انتهت الخصومة إذا لم تكن بينة، وإن نكلا عن اليمين، حلف العبد، وحُكم بالكتابة.
وإن أراد العبد إثبات الكتابة بالبينة، فلا يخفى أنا نُحْوِجُه إلى إقامة شهادة عدلين؛ فإنه يبغي مقصودَ العتاقة، وليس يطلب مالية، فلا يثبت مقصوده إلا بعدلين.
وإن صدّقه أحدُ الابنين، وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق مكاتَب، والقول قول المكذب في نصيبه مع اليمين؛ فإن نكل وحلف العبد يمين الرد حُكم بالكتابة في الجميع، وإن حلف، فنصيبه قنُّ، فيستكسب العبدُ، فما يحصل من أكسابه يدفع نصفه إلى المكذِّب بحكم الرق، والنصفُ يبقى في يده يدفعه إلى المصدِّق عند حلول النجم، فيعتِق به، ثم هذا العتق لا يسري قطعاً؛ فإنه مرتب على أداءٍ قهري لا يجد المصدق محيصاً، وقد ذكرنا أن الأمر إذا كان كذلك، فلا سريان.
فأما إذا أعتقه المصدق، أو أبرأه عن حصته، ففي سريان العتق الخلافُ المقدم، ورأى الأصحاب السريانَ هاهنا أقرب وأولى؛ لأن من يسري عليه معترف بالرق، فكانت السراية محتملة على موجب قوله.
وليس هذا ترتيباً معتداً به، ولكن إن كان العبد مكاتباً في علم الله تعالى، فالأمر في تسرية العتق على ما قدمناه، وإن سُئلنا عن حكم الظاهر، فمن كذب يظهر مؤاخذاً بموجب إقراره وهو المعني بالترتيب.
وهاهنا أمر يجب التنبه له، وهو أن المصدِّق إذا أبرأ ولم يُعتق، فالمكذب ينكر حصولَ العتق في نصيب المصدق المبرىء؛ فإن الإبراء في القن لا معنى له، وعلى موجب تكذيبه يجب ألا يسري العتق إلى نصيبه، ولكن الاختلاف مع هذا قائم؛ فإن المصدِّق قولُه مقبولٌ في نصيبه، فإذا أتى بما يقتضي العتق، فالسريان بعده أمر قهري لا يُربط بالرضا. نعم، إذا أعتق المصدِّق، فيجب القطع بمؤاخذة المكذب بعتق نصيبه إذا سرَّينا عاجلاً، لأنه معترف بأن نصيبه قد عتق. وهذا نجاز الفصل.
12524- وقد قال الصيدلاني إذا ادعى العبد الكتابة، فصدقه أحدهما وكذبه الثاني، فشهد المصدِّق بالكتابة، وانضم إليه شاهد آخر، قال: تثبت الكتابة، وقُبل شهادة أحد الوارِثَيْن على الثاني.
وهذا مشكل؛ فإنه بشهادته يثبت لنفسه حقوقاً-في الكتابة أو النجوم- موروثةً، فإطلاق القول بقبول شهادةٍ بعقدٍ عوضه للشاهد محال، وإن فرضت شهادته بعد الإبراء، فيتصور له أغراض في السراية إن سرّينا، فقبولى الشهادة مطلقاً بعد الإبراء لا وجه له، نعم يجب تخريجه على نفي السراية حتى إذا لم يكن للوارث الشاهد غرض ينسب إلى جر، فإذ ذاك تقبل شهادته.
فصل:
قال: "والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم... إلى آخره".
12525- إذا كاتب الشخص عبداً خالصاً على نجوم، ثم قبض معظمها، لم يعتِق من العبد شيء في مقابلة ما استوفى من النجوم. هذا مذهب معظم العلماء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم».
وعن علي رضي الله عنه أنه كان يوزع العَتاقة على النجوم، ويحكم بأنه يحصل من العتق مقدارُ ما قبض من النجوم على نسبة الجزئية، حتى إن جرى القبض في نصف النجوم، حصل العتق في نصف المكاتب، ولا قائل بهذا المذهب الآن.
وما ذكرناه من تبعض العتق في الوارثَيْن سببه تعدد الشخصين، وسنعود إليه في باب تبعيض الكتابة.
12526- ثم ذكر الشافعي أن المكاتب كتابةً صحيحة إذا مات قبل العتق، انفسخت الكتابة بموته. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: إن خلّف وفاء، أُديت النجوم منه، والمسألة مشهورة في الخلاف، ومعتمد المذهب أن رقبة المكاتَب موَرِدُ العتق قبل القبض.
فصل:
قال: "فإن جاء بالنجم، فقال السيد: هو حرام... إلى آخره".
12527- إذا أتى المكاتب بالنجم، فقال السيد هو حرام، وامتنع عن قبوله، أُجبر على القبول إلا أن يبرىء؛ فإن القول قولُ المكاتب في ملك ما في يده، وهذا بيّن.
ثم إن ذكر السيد لذلك المال مستحِقاً، أجبرناه على قبوله، ثم نؤاخذه بالإقرار بعد القبض، ونلزمه أن يسلمه إلى المقَر له. وإن لم يعيِّن مستحِقاً، واقتصر على قوله: هو حرام، وأجبرناه على قبوله، فالمذهب أنه لا ينتزع من يده، لأنه لم يعترف به لمتعين. ومن أصحابنا من قال: ينتزعه الحاكم من يده، ويضعه في بيت المال.
فإن قلنا: لا ينتزع من يده، فلو كذب نفسه، وقال: صدق المكاتَب في ادعاء الملك، وإنما ناكدته فيما قلتُ، فالمذهب أن ذلك مقبول منه، وتصرفه نافذ، بحسبه. وإن قلنا: الحاكم يزيل يده؛ فالظاهر أنه لو كذّب نفسه، لم يقبل منه.
12528- ومما يليق بهذا الفصل أن المكاتب لو جاء بالنجم عند محله، فالسيد مجبر على قبوله: كما قدمناه، ولو امتنع عن القبول ولم يبرىء، قَبَضَ القاضي عنه.
ولو جاء بالنجم قبل محله، ولم يكن للسيد غرضٌ في الامتناع عن القبول، فهو مُجبر على القبول، واختلف القول في سائر ديون المعاملات إذا كانت مؤجلة، فأتى بها من عليه الدين قبل المَحِل، فهل يجبر مستحق الدين على قبوله؟ فيه قولان تقدم ذكرهما في الأصول التي سبقت، ونجمُ الكتابة مما يقطع القول فيه بالإجبار على القبول، فقد رُوي: "أن سيرين كان مملوكاً لأنس بن مالك، فكاتبه على مال عظيم، فجاء بآخر النجوم معجلاً له على محله، فأبى أنس أن يأخذ إلا يوم المحل، فرفعه إلى عمر، وقال: إنه يريد أن أموت فيأخذ مالي وولدي، فقال عمر: تأخذه، أو أضعه في بيت المال، فأخذه أنس وعتق سيرين". ومعنى قول عمر أضعه في بيت المال، أحفظه عليك وأقبضه عنك قهراً، ولم يُرد أنه يصير مالاً للمسلمين.
وعلى هذا لو غاب السيد، فجاء المكاتب بالنجم قبل محله إلى الحاكم، قبلَه الحاكم عن الغائب، وحكم بعتق المكاتب.
وهذا كله إذا لم يكن على السيد ضرر في أخذ المعجل؛ فإن كان عليه ضرر في القبول، لم يجبره على القبول مذهباً واحداً، وذلك أن يكون الوقت وقتَ نهب وغارة، ولو قبل، خاف النهب، فلا يكلفه التعرض للضرر، اتفق الأصحاب عليه، وإنما يُجبر على القبول تشوّفاً إلى تحصيل العتق إذا لم يكن على القابض ضرر، ولو كان له غرض في ألا يقبل، ولم يكن عليه ضرر، فالغرض لا مبالاة به، وحديث أنس شاهد فيه.
ثم النجم الذي يأتي به- لا فرق بين أن يكون آخر النجم الذي يتعلق العتق بتأديته، وبين أن يكون أول نجم أو نجماً متوسطاً. فإن لكل نجم أثراً في تحصيل العتاقة.
ولو كان على إنسان دينٌ به رهن، والدين مؤجل، فأتى الراهن بالدين قبل المحل، فله غرض ظاهر في تعجيل الدين، لينفك الرهن، فقد قطع القاضي بأن مستحِق الدين يجبر على القبول إذا لم يكن عليه ضرر، كما يجبر السيد على قبول النجم قبل محله. ولم أر في ذلك خلافاًً في الطرق.
فصل:
قال: "وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده... إلى آخره".
12529- اتفق الأصحاب على أن المكاتب لا يتزوج إلا بماذن سيده، لأنه يتعرض في النكاح لغُرم المهر والنفقة، وهذا يتعلق بكسبه، وليست يده مطلقة في إكسابه حتى يصرفها إلى ما يشاء من مآربه، وإذا أذن له المولى في التزوج، ففي انعقاد نكاحه بإذن المولى قولان مبنيان على أن تبرعاته هل تَنْفُذ بإذن المولى؛ وفي ذلك قولان سيأتي شرحهما، مع استقصاء ما يكون تبرعاً من المكاتب وما لا يكون تبرعاً.
وذهب بعضر المحققين إلى أن نكاحه يصح بإذن المولى قولاً واحداً؛ فإنه يتعلق بحاجته، وإنما القولان في هباته وتبرعاته التي لا تتعلق بحاجاته، وهذه طريقة حسنة، والطريقة المشهورة طريقة القولين.
وقد نص الشافعي على أن المكاتبة لا تختلع نفسها بإذن مولاها، وذهب جمهور الأصحاب إلى أن هذا جواب من الشافعي على أحد القولين في أن المكاتب لا يتبرع بإذن المولى، وإلا فلا فرق.
وأشار بعض الأصحاب إلى القطع بأنه لا يصح منها أن تختلع وإن أذن المولى، وهذا وإن ذكره الصيدلاني، فليس له وجه، أعني أن قطع القول لا وجه له، ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إلحاق اختلاعها بنكاح العبد، من جهة أنه يعدّ من حاجاتها، وهذا لا قائل به.
وأما المكاتبة هل تُزوّج؟ قال القفال- فيما حكاه القاضي عنه: لا تُزوَّج المكاتبة بحال قولاً واحداً، لأنها غيرُ مالكة للإذن، وإذنها لابد منه، فصارت في تزويجها كالصغيرة.
وهذا غير مرضي، والذي ذهب إليه الجمهور أن تزويج المكاتبة بإذن المولى يُخَرّجُ على تزوج المكاتب بإذن المولى، فإن تزويجها من حاجاتها، كما أن تزوّج العبد من حاجته، بل إذا تزوجت المكاتبة، استحقت النفقةَ والمهرَ، وإذا تزوج المكاتب التزم المهر والنفقة.
ثم قال القاضي: الأظهر أنها تُزَوّج لما ذكرناه، ولفقهٍ آخر: وهو أنها بالنكاح لا يلزمها أن تُسلِّم نفسَها إلى الزوج تسليم الحرة، حتى يُقدَّرَ الزوجُ شاغلاً عن الاكتساب، بل سبيلها وسبيل. الزوج معها كسبيل الأمة إذا زوجها مولاها، لأنها محتاجة إلى الاكتساب، فمنفعتُها مستثناة كمنفعة الرقيقة.
وهذا في نهاية الحسن، فإن ظن ظان أنها إذا تزوجت، وصحّ ذلك، فقد التزمت التسليم التام، قيل: هلاّ لزم مثل هذا في تزويج السيد أمته؟ فلا وجه إلا ما ذكره القاضي.
12530- ثم تكلم الأصحاب في أن المكاتب هل يتسرّى جارية من جواريه؟ وهذا خارج على التبرعات. فليس له أن يتسرّى بغير إذن السيد، وفي التسرّي بالإذن القولان.
ثم ذكر الأصحاب ثبوت الاستيلاد، وطرفاً من أحكام الولد، ولا ينبغي أن نخوض في هذا الآن البتة؛ فإنا سنجمع أحكام الأولاد في باب إن شاء الله، ونذكر ولدَ المكاتب والمكاتبة. ثم نذكر أميّة الولد حتى نذكر تلك الفصول المتناسبة في موضع واحد.
فصل:
قال: "ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئاً... إلى آخره".
12531- مذهب الشافعي أنه يجب على المولى أن يؤتي المكاتبَ شيئاً. فالإيتاء مستحَق. وقال أبو حنيفة: هو مستحب.
ومعتمد الشافعي ظاهر قوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، وأشار رضي الله عنه إلى الآثار، وهي المعتمدة عندنا في تأسيس الكتابة، ووضعِ أصلها، ولم يكاتِب أحد إلا وضع من مكاتبه شيئاً، أو آتاه شيئاً، وعن ابن عمر أنه كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألفَ درهم، ووضع منه خمسةُ آلاف درهم، فقد شبه الشافعي الإيتاء بالمتعة في مجاري كلامه، وإنما ذكرنا هذا لأن الحاجة قد تمسّ إليه في تفصيل المذهب.
وأول ما تذكره بعد ثبوت الأصل، اختلافٌ في أن الأصل في الإيتاء إعطاء شيء أو حطُّ شيء من النجوم؟ فمنهم من قال: الأصل الحط؛ فإن الغرض من الإيتاء الإعانة، وهي تحصل بالحط ناجزاً. ومنهم من قال: الأصل بذل شيء له. تعلقاً بظاهر قوله: {وَآَتُوهُمْ} ثم قالوا: أثر هذا الخلاف ماذا؟ ولا خلاف أن الغرض يحصل بكل واحد منهما.
فقيل: من آثار الخلاف أن المكاتب كتابة فاسدة إذا عتق، ففي استحقاقه شيئاً على المولى وجهان، فإن قلنا: الأصل الحط، لم يستحق؛ فإنه لا نجم على المكاتب كتابة فاسدة، حتى يجب حطُّ شيء. فإذا لم يثبت الأصل، لم يثبت البدل، وإن قلنا: الأصل الإعطاء والبذل، فلا يمتنع إيجاب شيء على المولى تشبيهاً للكتابة الفاسدة بالكتابة الصحيحة؛ فإنها شابهتها في معظم المقاصد، ثم إذا أوجبنا إعطاء شيء ومن موجب الكتابة الفاسدة استحقاق السيد قيمةَ الرقبة، فلو حط من قيمة الرقبة، كفى ذلك عن جهة الإيتاء؛ فإنا وإن جعلنا الأصل الإعطاء، فالإبراء يحل محله، وهذا إبراء عما وجب بسبب الكتابة الفاسدة.
وإذا أعتق الرجل عبده على مال أو باعه من نفسه-كما سنفصل سائر عقود العتاقة من بعد، إن شاء الله- فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا لا نوجب الإيتاء في غير الكتابة، وإنما ظهر تردد الأصحاب في إلحاق الكتابة الفاسدة بالصحيحة، فأما ما عداها من عقود العتاقة، فلا يجب الإيتاء فيها.
وحكى شيخي عن بعض الأصحاب المصير إلى وجوب الإيتاء في كل عقد عَتاقة فيه عوض، ولا خلاف أن من أعتق عبده من غير عوض لم يلتزم شيئاً، وإن كنا قد نوجب المتعة لكل مطلقة على قول بعيد، فالعتق المنجز لا ينزل منزلة الطلاق.
12532- ثم إنا بعد هذا نتكلم في فصول: منها- وقتُ وجوب الإيتاء، ومنها- الكلام في مقداره، ومنها- الكلام في جنسه.
فأما القول في وقت الوجوب، فالذي ظهر لنا من كلام الأصحاب، فيه مسلكان:
أحدهما: أن الإيتاء يجب لحصول العتق، ولكنا نستحب تقديمه عليه حتى يستعين المكاتَب به، ووجه ذلك أن المكاتب إذا عَتَق، فهو بمثابة الزوج تُطَلَّق. وما يؤتيه المولى بُلْغةٌ يضطرب فيها العتيق إلى أن يكتسب مزيداً؛ فإن الغالب أنه يستفرغ ما في يده في النجوم.
والمسلك الثاني للأصحاب- أن الإيتاء يجب قبل العتق، وهذا يعتضد بظاهر القرآن، فإنه تعالى قال: {فَكَاتِبُوهُمْ}... {وَآَتُوهُمْ} [النور: 33]، وقد يظهر للناظر أن المقصود الظاهر من الإيتاء الإعانة إما بإعطاء شيء وإما بتخفيفٍ بالحط. ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إيجاب الإيتاء وقت العقد على التضييق، حتى تتوجه الطَّلِبةُ به قبل الانتهاء إلى النجم الأخير. هذا قولنا في وقت وجوب الإيتاء.
12533- فأما الكلام فيما يتادى به واجب الإيتاء، فقد قال طوائف من الأئمة: يكفي منه ما يتموّل أو يجوز أن يكون عوضاً، فإن زاد، فهو تكرم وذهب ذاهبون إلى أنه لا يقع الاكتفاء بأقل ما يتمول، ومتعلق الأولين أنه لم يُرَ في الشرع توقيف يرشد إلى تقدير أو تقريب، أما التقدير، فبين، وأما التقريب، فمثل ما اقتضاه ظاهر قوله تعالى: {مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241]. فتلقى العلماء من المعروف التوسط بين التقليل والتكثير، كما مضى مشروحاً في بابه. والإيتاء ليس مقدراً ولا مقيداً بما يقتضي تقريباً، فإنه تعالى قال: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور: 33]، ومقتضى {مِن} التبعيض، وإذا نظمنا معناه، كان التقدير (وآتوهم بعض ما آتاكم الله) واسم البعض ينطلق على القليل والكثير.
ومن تمسك بالمسلك الثاني: احتج بأن الإيتاء مأمور به لغرضٍ لا يخرج من الإعانة وتمهيد بُلغة بعد العتق، ومن أنكر ذلك من مقصود الشارع، فهو جاحد، والحبة فما دونها لا تسدّ مسدّاً في إعانة، ولا في بلغة، وليس هذا كالمهر؛ فإن الغرض من إثباته أن لا يثبت البضع مجرداً عن مقابل، وهذا يتحقق بما يصح أن يكون عوضاً.
فإن اعتبرنا أقل ما يتمول، فلا إشكال يختص بما نحن فيه، وقد ذكرت في مواضع معنى ما يتمول، ومن اعتبر الغرض، فالأوجه معنى الإعانة، وهذا يختلف بقلة النجم وكثرته، فإن الحاجة إلى الإعانة تختلف باختلاف المَبالغ، ومن راعى بلغةً بعد العتق، فقد يخطر له تنزيل تلك البلغة منزلة المتعة، ولست أرى ذلك معتبراً،-وإن كنا قد نلتفت إلى المتعة- فإنا لو اعتبرنا ذلك في التفصيل، للزمنا إيجابُ الإيتاء في العتق المنجّز.
ثم إذا راعينا الغرض، فلا ندري لذلك مردّاً يُرجع إليه إلا أن يجتهد القاضي عند فرض نزاع، ولا معدل عن هذا إذا تُصور اختلاف بين السيد والعبد. فإن قيل: فالقاضي إلى ماذا يرجع مع العلم بأن الاحتكام لا سبيل إليه، قلنا: يرجع إلى ما له أثر في الإعانة، وعدمُه يورث تضييقاً أو كلفة. وهذا يختلف بقدر النجم وقوة العبد، وإن غيرنا العبارة قلنا: المقدار الذي يفرض العجزُ بفقدانه، ويترتب التعجيز عليه هو المُغني المؤثر، ثم مستند النظر فيه حدسٌ وتخمين، والمعلوم منه أن المكاتب على عشرة آلاف في سنتين لا يغني عنه حط المائة شيئاً، فما نستيقن أنه لا وقع له لا يكفي، وما نستيقن له وقعاً كافٍ، وما نتردد فيه فقدر التردد محتمل يتعارض فيه بقاء الإيتاء وبراءة ذمة المولى، ويلتحق بأطراف تقابل الأصلين. والذي نستيقن وَقْعَه يشتمل على زيادة قطعاً. هذا منتهى الإمكان في ذكر المقدار.
12534- فأما الكلام في الجنس، فإن حط من نجمٍ، جاز، وإن أعطى من عين ما أخذ جاز، وإن أعطى من مالٍ آخر غيرِ مجانس لما أخذ، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين فيه:
أحدهما: أنه يتعين الإعطاء من عين ما أخذ؛ تعلقاً بقوله تعالى: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33]، وهذا محمول عندنا على النجوم، وهي من مال الله في هذه الآية.
ثم قال الشيخ أبو علي: لو آتى من غير جنس النجم، لمِ يعتد به، وشبّه هذا بإخراج الدراهم من الدنانير في الزكاة، من حيث إن الإيتاء قُربة تثْبتُ تعبداً، وهي أبعد عن المعني من الزكوات؛ إذ يتعلق بها سدّ الخلات، وهو معنىً كلّي تدركه العقول بمباديها، ثم غير الجنس لا يجري فيها.
ووجدت في كلام بعض الأئمة ما يدل على أن غير الجنس يجزىء، لأن هذا ملتحق بالمعاملات، فلا يُنحى به نحو العبادات.
ثم ما أراه أن ما ذكر الشيخ وحكى الوفاق فيه معناه أن السيد لو جاء به لم يجبر المكاتب على قبوله، فأما إذا قبله المكاتب، واعتاض عن حقه، جاز ذلك. وقد نقول: إذا منعنا نقل الصدقة وانحصر المستحقون أن لهم أن يعتاضوا عروضاً عن حقوقهم.
12535- ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا لم يبق من النجوم إلا المقدارُ الذي لو حطه أو أعطاه، لكان كافياً، فقد قال الأئمة: لا يَسْقُط ذلك المقدارُ، فإنا وإن جعلنا الحط أصلاً، فللمولى أن يؤتي بدلاً عنه، هكذا ذكر الأئمة. وقالوا: يرفعه المكاتب إلى الحاكم حتى يرى رأيه، ويفصلَ الأمر في ذلك؛ وإن امتنع أجبره على منهاج الحق.
وإن جعلنا الإيتاء أصلاً، فقد قال القاضي: إذا بقي على العبد المقدارُ الذي لا اكتفاء بدونه، ولم يجده العبد، فللمولى أن يعجّزه، ثم في تعجيزه إياه، وعوده رقيقاً سقوطُ الإيتاء، وارتفاع العقد من أصله؛ وهذا عندي غيرُ صحيح؛ فإن المكاتب إن وجب عليه ما بقي، فعلى السيد مثله، ونحن قد نقول في مثل هذا بالتقاصّ، وأيضاً- فإن الإيتاء إنما شرع حتى لا يَعْجِز العبدُ بهذه البقية، وإذا شهد أخصُّ مقاصد الحكم في أمرٍ، لم تَسُغ مخالفتُه.
فقد انتظم أنا إن جعلنا الأصل الحط، فلا تعجيز، وإن جعلنا الأصل الإيتاء، فقد نقل عن القاضي التعجيز، وهو عندي وهم من الناقل. والوجه ما ذكرته، ويبعد كل البعد أن ينتهي التفريع التقديري الآيل إلى اللفظ إلى منتهى يناط به إثباتُ تعجيز ونفي تعجيز.
12536- ثم قال الشافعي: "ولو مات المولى بعد قبض جميع النجوم قبل الإيتاء، استحق العبد في تركته... إلى آخره".
الوجه أن نذكر فقه الفصل، وما لا يجوز اعتقاد خلافه في قاعدة المذهب، ثم نذكر النص، والإشكال في فحواه، واضطراب الأصحاب بحسبه.
فأما ما يجب التعويل عليه، وهو أن الإيتاء حق مستحق، إذا عتق المكاتب بتأدية جميع النجوم، صار ما يستحقه ديناً، فإذا مات المولى قُدِّم ما يستحقه العتيق على الوصايا وحقوق الورثة كسائر الديون، وإن كثرت الديون، ضارب المكاتَب أصحاب الديون.
فإذا تبين هذا- فقد قال الشافعي فيما نقله المزني: "حاصّ المكاتَب الذي عتق أهلَ الوصايا"، وهذا يُشكِل، لما نبهنا عليه، واضطربَ رأي الأصحاب في هذا النص اضطراباً جرّ خبالاً عن أصل المذهب.
فحكى العراقيون في ذلك وجهين:
أحدهما: أن واجب الإيتاء في مرتبة الوصايا، والديونُ مقدمة عليه؛ فإن الإيتاء مكرُمة وإن وجبت، وقال الشيخ أبو حامد: الوجوب في الإيتاء ضعيف، ورمز إلى ضعف متعلق المذهب في ذلك.
وهو غير سديد مع وجوب الإيتاء، والأصول لا تصَادم بأمثال هذا، ولو قدّمنا ديناً على دين، فقد نجد له نظيراً، فأما إيقاع الإيتاء في مرتبة الوصايا، فلا اتجاه له، ولا شك أن هذا القائل يقول: إذا ضاق الثلث، فلا مزيد، وهذا على نهاية البعد.
والوجه الثاني للعراقيين- أن ما يراه القاضي باجتهاده، فالقول فيه أن المتمول منه دين، والزائد عليه-وإن أوجبناه- في رتبة الوصايا، وهذا كقولنا فيمن أوصى بإحجاج رجل عنه من بلده وكان حَجُّ الإسلام دينا عليه، فمقدار أجر العمل من الميقات دينٌ، والزائد عليه وصية.
وهذا أيضاً ليس بشيء، فإن القاضي إذا أثبت واجباً، فليكن ديناً، وليس له أن يزيد على مقدار الواجب، ولا ينبغي للفقيه أن يحيد عن المسلك المستقيم ويُصغي إلى التخييلات، فالمذهب المقطوع به ما ذكرناه.
وتأويل النص أن المولى لو كان قدَّر مبلغاً في الإيتاء، ورأيناه أكثر من قدر الكفاية، فالزائد على قدر الكفاية في رتبة الوصايا، وفرض هذا فيه أولى من إضافته إلى القاضي.
ومما يجب أن يعتقده من ينتحل مذهب الإمام المطلبي أنه يبني فرعه على أصول الشريعة، وقد صح في منصوصاته أنه قال: إذا بلغكم عني مذهب، وصح عندكم خبر على مخالفته، فاعلموا أن مذهبي موجَبُ الخبر، والظن به أنه لو زل قلم ناسخ عنه عن أصلِ أنّ مذهبه موجَبُ الأصل، وما نُقل محمول على تحريف أو غفلة.
فصل:
قال: "وليس لولي اليتيم أن يكاتب عبده... إلى آخره".
12537- ليس لمن يلي أمر الطفل، قريباً كان، أو قيماً، أو قاضياً، أن يكاتب مملوكَ الطفل؛ فإن المكاتبة في حكم التبرع المحض؛ من حيث إنها إعتاق الرقبة بكسبٍ، لو اطرد الملك، لكان ملكاً للطفل.
وعند أبي حنيفة لولي الطفل أن يكاتب عبده.
وليست الكتابة في معنى بيع مال الطفل نسيئة من مليء وفيّ على شرط الغبطة، مع الاستيثاق، كما تقدم في كتاب البيوع؛ فإن ذلك يعد مجلبةً للمال، ومكسبةً فيه، بخلاف المكاتبة، وسأذكر في تبرعات المكاتب قولاً جامعاً، فيما نعتبر في كل تبرع، ثم في حق كل واحد.
12538- ثم قال: "ولو اختلف السيد والمكاتب تحالفا... إلى آخره".
ولو اختلفا في قدر النجوم وجنسها، أو في مقدار الأصل، تحالفا، ثم إن جرى ذلك قبل العتق، انفسخت الكتابة، أو فسخت، وينقلبُ المكاتب إلى الرق، ويخلص للسيد ما قبضه.
وقد يفرض الاختلاف بعد حصول الوفاق على الحرية، وذلك بأن يدعي السيد الكتابة بألفين، وقال العبد: بل كانت بألف، وكان قد سلم إلى سيده ألفين، وزعم أنه سلم أحدهما عن مال الكتابة، وسلّم الآخر وديعة، وقال السيد: بل سلمتَهما عن جهة الكتابة، فالعتق متفق عليه لا مرد له، وموجَب الانفساخ أن يرد المولى الألفين، ويرجع على العبد بقيمته.
فصل:
قال: "ولو مات العبد، فقال سيده: قد أدى إليّ كتابته... إلى آخره".
12539- إذا تزوج المكاتب معتَقَةً، فأتت منه بأولادٍ، فلا شك أنهم أحرار، لأن الحرة لا تلد إلا حراً، وعليهم الولاء لمولى الأم، فإذا عتق المكاتب، انجر ولاء الأولاد إلى معتِقه، فلو مات المكاتَب واختلف السيد وموالي الأم، فقال السيد عَتَق مكاتَبي قبل أن مات، وانجر إليّ ولاء الأولاد، وقال موالي الأم: بل مات رقيقاًً، والولاء على الأولاد مستدام لنا، فالقول قول موالي الأم؛ فإن الأصل استمرار الولاء، وبقاء الرق في المكاتب إلى الموت.
فصل:
قال: "ولو قال: استوفيت مالي على أحد مكاتَبيَّ، أقرع بينهما... إلى آخره".
12540- إذا كاتب عبداً في صحته، ثم اعترف في مرض موته بأنه قبض منه النجوم، فإقراره مقبول والحكم به نافذ؛ فإنه أقر بما لو أنشأه في مرض الموت يصح منه، وإقراره للمكاتب في معنى الإقرار للأجنبي، وليس كالإقرار للوارث.
12541- ولو كان كاتب عبدين في صحته، ثم قال: استوفيت مالي على أحدهما، فهذه المسألة لا اختصاص لها بالمرض والإقرار فيه، وحكمها أنه إذا أَبهم الإقرارَ، كان مطالباً بالبيان، مرفوعاً إلى مجلس القاضي، كما تمهد ذلك في نظائر هذه المسألة في إبهام الطلاق والعتق، فلو أبهمَ ثم عيّنَ، وقال: إني استوفيت نجومَ هذا، فيعتق الذي عيّنه، ولا تنقطع الطّلبة من جهة الآخر، فأقله أن يدّعي عليه، ولتكن دعواه: "إنك استوفيت نجومي"، فإذا ادعى كذلك، فالقول قوله مع يمينه وبقي الاستيفاء، فإن حلف، فذاك، وإن نكل، رُدت اليمين على المكاتب، فإن حلف، حكمنا بعتقه، وقد عَتَق الأول بالإقرار.
ولو قال المكاتب الثاني: عنيتني بالإقرار الذي أبهمته، فالأصح أن دعواه مردودة على هذا الوجه؛ فإنه ليس يدعي حقاً ثابتاً، وإنما يدعي إخباراً، قد يكون صدقاً، وقد يكون كذباً، ولا اختصاص لما ذكرناه بهذه المسألة، بل لو ادعى إنسان على أحد، وقال: قد أقررتَ لي بألف، فالذي ذهب إليه المحققون أن الدعوى على هذا الوجه لا تسمع؛ فإنه لم يدع لنفسه حقاً. نعم، لو ادعى ألفاً، وأقام بينة على إقرار المدعى عليه بالألف، لكان ذلك منتظماً مفيداً يحصّل الغرض.
ولو مات هذا الذي أَبهم إقراره قبل البيان، طالبنا الورثة بالبيان. ولكن اليمين المتوجهة عليهم عند التداعي تكون على نفي العلم، فإذا حلفوا لا يدرون من عيّن موروثهم من المكاتبَيْن، انقطعت الخصومة عنهم.
ثم في المسألة قولان في أنا هل نقرع بين المكاتَبين؟ أشهرهما- أنا نقرع بينهما، والقول الثاني- أنا لا نقرع، حكاه الصيدلاني.
توجيه القولين: من منع الإقراع احتج بأنه لو كان له غريمان، وهو يستحق على كل واحد منهما مقداراً من الدين، فقال: استوفيت ما كان لي على أحدهما ومات قبل البيان، ولم يبين الورثة، فلا إقراع، فالإقرار باستيفاء النجوم بهذه المثابة.
ومن أقرع، احتج بأن قال: المطلوب العَتاقة، والاستيفاء يقع ضمناً، والقرعة تجري في استبهام العتق.
فإن جرينا على إجراء القرعة-وهو الأصح- هان التفريع، وإن فرّعنا على أن القرعة لا تجري، فالذي يقتضيه ظاهر القياس الوقفُ إلى اصطلاحٍ، أو بيانٍ، أو قيامِ بينة.
وقد ينقدح في التفريع على هذا القولِ الضعيف أن يقول الوارث: قد امتنع المكاتبان جميعاً، وإنما العتيق أحدهما بحكم إقرار المولى، والامتناع يثبت حق الفسخ، فلو قال: فسخت الكتابة فيكما، لم يمتنع نفوذ الفسخ في الكتابة الثانية في علم الله تعالى، وجاز أن يقال: هذا بمثابة ما لو قال من له حق التعجيز: للمكاتَبِ وعبدٍ قنٍّ معه أو حُرٍّ: عجزتكما، فالتعجيز ينفذ على من يقبل التعجيز، ويلغو في الآخر، ثم ترتب على ذلك أن أحدهما حر، والثاني رقيق، وقد استبهم الأمر، فيقرع بينهما.
وفي أصل المسألة غائلة عظيمة، وهي أن من أعتق عبداً من عبدين على التبيين، ثم استبهم الأمر، فلا يقرع، وإنما الإقراع في موضعين:
أحدهما: أن المريض إذا استوعب التركة بالإعتاق، واقتضى الشرعُ إرقاقَ بعض العبيد وإعتاقَ بعضهم، فهذا أصل القرعة ومحلها، وفيه ورد حديث عمران، والمحل الثاني للقرعة أن يبهم السيد الإعتاق، ولا يعين بقلبه ويموت، فالإقراع يعمل إذا لم يَقُم الوارثُ مقام الموروث، على ما فصلناه في بابه.
فأما إذا تعيّن العتق وقوعاً، ثم استبهم، فلا جريان للقرعة، والحالة هذه، ولا انفصال عن هذا السؤال، لا بتخريجه على أصلٍ قدمناه، وهو أن المريض إذا أعتق عبداً، ثم عبداً، وتحققنا التقدم، واستبهم عينُ المتقدم، ففي الإقراع قولان، قدمنا ذكرهما، وبنيناهما على نظيرهما في الجمعة والنكاح، وهما جاريان حيث نعلم المتعيّن ونيئَس من الوصول إلى دركه.
فنعود بعد هذا التنبيه إلى المسألة ونقول: من أجرى القرعة، فهو مفرع على أحد القولين، ومن منع القرعة لأجل أن القرعة لا تجري في الاستيفاء، فلو صح التعجيز كما صورناه، التحق هذا بالقولين في أن القرعة هل تجري في مثل هذا المقام وهذا نهاية كشف المسألة.
12542- ثم قال: "ولو ادعى أنه دفع، أُنظر يوماً... إلى آخره".
إذا ادعى المكاتب أنه سلّم النجوم، وأنكر السيد، فالقول قول السيد، فإن قال المكاتب: إن لي بينة، أنظرناه يوماً، فإن استزاد، فمنتهى مدة الانتظار ثلاثة أيام، فإن لم يقم بينة، ولم يؤذ النجم عجّزه المولى، ثم يكفيه إقامةُ شاهدٍ وامرأتين؛ فإنه يبغي إثبات تسليم مال.
ولو كان يريد إثبات تسليم النجم الأخير الذي يستعقب أداؤه العتقَ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أنّه لابد من عدلين، ولا يقبل شاهد وامرأتان؛ فإن المقصود والأغلب في النجم الأخير إثبات العَتاقة، وهذا قد سبق في كتاب الشهادات موضحاً.
فصل:
قال: "ولو أدى كتابته، فعتق، وكان عَرْضاً... إلى آخره".
12543- نجم الكتابة لا يكون إلا ديناً، وكل دين ثبت في عقد، فاستوفاه مستحقه، ولم يجده على النعت المستحَق، ردّه، ولا يرتد العقد برّه، ولكنه يعود إلى طلب حقه، ثم إن كان ما قبضه من غير جنس حقه، فالرضا به لا أثر له، وهو على حقه، وما قبضه لم يملكه، إلا أن يعتاض عن حقه ما قبضه، حيث يجوز الاعتياض.
ولو كان ما قبضه من جنس حقه، ولكن كان به عيبٌ، فإن رضي به، استمر الملك فيه، وإن رده، وأراد حقه الموصوفَ، فهل نقول: جرى ملكه فيما قبضه، ثم انتقض بالرد، أم نقول-إذا رد- تبيّنا أنه لم يملكه؟ فعلى قولين بنينا عليهما مسائلَ في البيع: منها- أن عقد التصارف لو ورد على الذمة، ثم جرى التسليم والتسلُّم في المجلس، وحصل الافتراق بعد ذلك، فوجد أحدهما بما قبضه عيباً، وردّه، فإن قلنا: ملك ما قبض، فالعقد صحيح؛ فإن التفرق كان على ملك العوضين. وإن قلنا: نتبين أنه لم يملكه، فالعقد فاسد؛ فإن المتعاقدين تفرقا قبل التقابض.
ومما يبتني على هذا الأصل أن من أسلم في جاريةٍ، ثم قبض الجاريةَ، فلم يجدها على الصفات المذكورة؛ إن رضي بها، استمر العقد، وإن ردها، فالعقد قائم، وهو يطلب الجارية التي يستحقها، ولكن هل يجب على المسلَم إليه استبراء الجارية التي رُدت عليه؟ فعلى القولين: فإن قلنا: ملكها قابضها، ثم زال الملك، استبرأها المسلَم إليه، وإن قلنا: لم يملكها، فالمسلم إليه لا يستبرئها؛ وقد تبين استمرار ملكه فيها.
ومما نُجريه في اطراد هذا الأصل-قبل الخوض في مقصود الفصل- أن من قبض موصوفاً-كما ذكرنا- ولم يكن على الصفات المشروطة، ورضي به، فمتى يحصل ملكه؟ هذا بعينه ما قدمناه، ففي قولٍ يحصل الملك عند الرضا، وفي قول يحصل الملك بالقبض، ويتأكد بالرضا.
وتتمة الكلام في ذلك أن من اشترى عيناً وقبضها، واطلع على عيب قديم بها، فحق الرد فيها على الفور، كما ذكرناه في كتاب البيع. وإذا قبض موصوفاً في الذمة، ولم يكن على كمال الصفة، واطلع على ذلك، فإن قلنا: إنه لا يملك بالقبض ما لم يرض، فلا شك أن معنى الفور لا يتحقق، بل الملك موقوف على الرضا متى كان، وإن قلنا: يحصل الملك بالقبض، فاطلع على النقص، فيجوز أن يقال: حق الرد على الفور، والأوجه أنه ليس على الفور، وإن حكمنا بحصول الملك بالقبض؛ لأنه ليس معقوداً عليه، وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رفعه إلى رفع العقد محاماة على بقاء العقد. فهذا مقدار غرضنا في مقدمة الفصل.
12544- ونحن نعود بعده إلى الغرض، ونقول: إذا قبض السيد النجم الأخير مثلاً، ولم يكن على الصفة المطلوبة، والمجلس جامع، ولو فرض الرضا والتساهل، لاستمر الملك، ونفذ العتق، فلا يخلو إما أن يرضى وإما أن يبغي الرد، فإن رضي، حصل العتق.
واختلف الأصحاب في وقت حصوله، فمنهم من قال: يحصل العتق عند الرضا، ومنهم من قال: يحصل العتق بالقبض، ولا يعسر على الفطن تلقي هذا مما مهدناه.
وإن كان اطلع وأراد الرد والاستبدال، فهل نحكم بحصول العتق، أم كيف السبيل؟ هذا يبتني على القولين المذكورين في أنا هل نحكم بحصول الملك بالقبض، ثم نقضي بانتقاضه في المقبوض الموصوف، فإن قلنا: لا نحكم بالملك، بل نتبين أنه لم يحصل أصلاً. فإن قلنا: نتبين أن الملك لم يحصل، فالعتق غير حاصل، وإن قلنا: ارتد العتق، كان توسعاً وتساهلاً في الكلام، بل لم يحصل أصلاً. والمعنيّ برده الحكمُ بانتفائه أصلاً، وهذا متجه بيّن.
وإن قلنا: يحصل الملك في المقبوض، فلا ينسدّ على المولى باب الرد باتفاق الأصحاب، ولكن اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إذا ردّ، تبيّنا أن العتق لم يحصل. وهذا هو الذي لا يستقيم على قاعدة المذهب غيره؛ فإن العتق لو حصل، لامتنع ارتداده؛ إذ ليس هو من التصرفات التي يتطرق النقض إليها.
فإن قيل: إذا حكمتم بالملك في المقبوض، فلِم لَم تقضوا بنفوذ العتق؟ قلنا:
لأن العتق يحصل في الكتابة الصحيحة بقضية المعاوضة، والعتق مقابَل بملكٍ لازم متأكد، لا يتطرق إليه إمكان الرفع والقطع، فإذا ردّ، تبينا أن العوض على مقتضى العقد لم يَجْر فيه ملك، والعتق لا يكتفى في حصوله بجريان ملك جائز على عوض ناقص.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ العتق على الجواز، كما حصل الملك في العوض على الجواز، فإن حصل الرضا، لزم الملك والعتق، وإن اتفق الردُّ، ارتد العتق بعد نفوذه، وهذا ضعيف لا أصل له، ولكن حكاه القاضي وزيّفه، وقد نجد له نظيراً في تفريعات العتق في العبد المشترى في زمان الخيار، ولا أحد يصير إلى تنفيذ العتق على اللزوم.
ومما يتصل بهذا الفصل أن القابض لو تلف ما قبضه، ثم اطلع على ما كان به من نقص، فإن رضي به، فقد قال الصيدلاني: ينفذ العتق، فإن لم يرض به وأراد الرجوع إلى الأرش، فنتبين أن العتق لم ينفذ.
هكذا قال الأئمة، حتى إن فرض عجز عن تأدية الأرش، فللمولى أن يعجّز المكاتب به، كما يعجزه بالعجز عن مقدارٍ من النجوم.
12545- وفي هذا مزيد بحث يستدعي تقديمَ أصل في ذلك. فنقول: من اشترى عيناً وتلفت في يده، واطلع على عيب، فالرضا والإغضاء إبراءٌ عن حق ثابت أم لا؟ ما دلّ عليه فحوى كلام الأئمة أنه لا حاجة إلى إنشاء الإبراء، والرضا كافٍ، وتعليله أن الأرش في حكم العوض عن حق الرد، ثم حق الرد يكفي في سقوطه الرضا، فليكن الأرش بمثابته، وإن طلب الأرشَ، تقرر حقه، ثم لا يسقط ما لم يسقطه، ولا يخفى أن طلب الأرش ليس على الفور، وإنما الفور في الرد.
فإذا تبين هذا في العين المبيعة المقبوضة إذا تلفت، فلو كان المقبوض عينَ ملتزم في الذمة، فإذا فات في يد القابض، فالذي ذكره الأئمة أنه إن رضي، استمر العتق، ولا إشكال.
ومتى يحصل العتق؟ فعلى وجهين:
أحدهما: أنه يحصل عند الرضا.
والثاني: أنا نتبين حصوله مستنداً إلى القبض، وهذا يناظر ما قدمناه من الرضا بالعيب عند بقاء العين، وإن لم يرض وطلب الأرش، تبين أن العتق لم يحصل، وقد يخرج الوجه الضعيف الذي حكيناه في أن العتق يحصل، ثم يرتد.
فإذا تمهد هذا، فالكلام بعده في الأرش، وقد اختلف أصحابنا فيه: منهم من قال: الأرش نقصان العين المقبوضة، حتى إن كان النقصان عُشراً، رجع بمثل عُشر ما قبض. ومن أصحابنا من قال: الأرش هو الرجوع بمثل نسبة ذلك النقص من الجانب الثاني. فإن كان عُشراً رجع بعُشر قيمة العبد، وهذا قياس الأروش في المعاوضات، كما مهدناه في كتاب البيع على الاستقصاء.
هذا ما ذكره الأصحاب.
فنوجّه الوجهين الأخيرين، ثم نذكر إشكالاً وجواباً عنه:
أما من أثبت الرجوع بجزء من قيمة العبد، فوجهه الجريان على قياس الأرش في البيع وغيره من المعاوضات. ومن لم يسلك هذا المسلك قال: المقبوض عن ملتزم ليس ينتصب ركناً، ولذلك لا يرتد العقد برده، فلا يسترد في مقابلة نقصه جزءاً من العوض، كما لا يسترد المعوَّضَ إذا كان باقياً عند ردّ العوض المعين.
وأما الإشكال، فلو قيل: إيجابُ جزء زائد في المقدار في مقابلة الصفة المعدومة تغييرٌ لتقدير العوض، وإن رجعنا في جزء من قيمة رقبة المكاتب، فهذا لا يليق بالكتابة الصحيحة؛ فإن الرجوع بقيمة الرقبة إنما يثبت عند فساد الكتابة، وتمام ذلك أنه لو قيل: يغرم هذا الذي قبض النجم مثلَ ما قبضه، ويطالب بالمسمى الموصوف، لكان أمثل مما قدمنا ذكره، سيّما إذا قلنا: القبض لا يملِّك ما لم يثبت الرضا، ثم قلنا: إذا ثبت الرضا، حصل الملك عنده. ولم يتعرض أحد من الأصحاب لذلك. ولعلهم رأَوْا أن التلف إذا اتصل بالمقبوض، جرى الملكُ فيه لا محالة، وإنما يجري القولان إذا كانت العين قائمة.
ثم على هذا ذكروا وجهين في الأرش، كما قدمنا ذكرهما، وما وجهنا به كلام الأصحاب ليس بقاطع، والاحتمال الذي ذكرناه باقٍ، وهو يجري في قبض كل موصوف، فأما ما ذكرناه من الإشكال في الوجهين الذين ذكرهما الأصحاب، فلا يخفى الانفصال عنه: أما الزيادة في المقدار على وجهٍ، ففي مقابلة نقصان الصفة، وأما تقدير قيمة جزء من العبد، فهو على مذهب فوات المعوَّض، ويكثر نظير ذلك في المعاوضات.
وقد نجز الغرض، وتم النقل والتنبيه على وجوه الإشكال.
12546- ونحن نأخذ بعد هذا في فصلٍ يقرب مأخذه مما ذكرناه، فنقول: إذا قبض السيد النجمَ، فخرج مستحَقاً، وتبين أنه لم يكن للمكاتَب، فلا شك أن المقبوض مردود، والعتق غير حاصل؛ فإن حصوله موقوف على ثبوت الملك في المقبوض؛ والمستحَق لا يملكه القابض. وفي ذلك نظر وبحث، فنبيّنه في أثناء الكلام.
ولو قال المولى لعبده: أنت حر على ألف درهم، فقال: قبلت، ثم جاء بألف مغصوب، فالعتق قد وقع بالقبول، وطلبُ الألف بعد وقوع الحرية، وكذلك إذا قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فإذا قبلت وكانت مُطْلَقة، وقع الطلاق، وهذا في الكتابة لا يتحقق؛ فإن القبول فيه لا يفيد العتاقة، بل لابد من رعاية أحكام وقضايا، وبعد جميعها العتاقةُ.
ولو قال لمكاتَبه كتابة فاسدة: إن أديت ألفاً، فأنات حر، فلو جاء بألف مغصوب، فهل تحصل الحرية؟ فعلى قولين، وقد ذكرنا في نظير ذلك من الطلاق أن الرجل إذا قال لامرأته إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، فجاءت بألف مغصوب، ففي وقوع الطلاق الخلاف، كما تقدم في الخلع.
وسبب الخلاف أن الإعطاء من وجه يقتضي تمليكاً، فينبغي أن يكون الألف المعطى بحيث يتصور من المعطي تمليكه، ولا يقتضي تمليكاً من وجه آخر؛ فإن المعطى في الطلاق وفي الكتابة الفاسدة مسترد، ويجب الرجوع إلى غيره عند قرار الغرم. فإذا كان كذلك، فلا أثر لكون الألف المُحضَر مما يتأتى التمليك فيه.
والضابط في الفصل أن الخلع إذا كان وارداً على التزام شيء في الذمة، اكتفي بالقبول الآتي جواباً عن الإيجاب، والطلاقُ يقع بالقبول نفسه، ولا أثر لكون الدراهم مغصوبة أو مستحقة، وإذا كان الخلع مُورداً على الإعطاء، مثل أن يقول: "إن أعطيتني"، فهل يشترط كون الدراهم مملوكة؟ فيه الاختلاف، ونظير ذلك من الكتابة، الكتابةُ الفاسدة؛ فإن عمادها التعليق، ووجهه أن يقول المولى للمكاتب: إن أعطيتَ كذا، فأنت حر، فتقع الكتابة على فسادها مناظِرة للخلع الوارد على الإعطاء، وإن صحت الكتابة، فمن ضرورتها ورودها على الذمة، فهي في الظاهر تناظر الخلع الوارد على الذمة، ولكنها تفارقه؛ من جهة أن الفراق يتعلق في الخلع بالقبول، ثم طلبُ العوض يقع وراء البينونة، والعتق لا يقع في الكتابة بالقبول، بل يقع بحصول الغرض في العوض على مقتضى المعاوضة، لا على اعتبار تحقيق التعليق. وهذا تفصيل هذه المسألة.
12547- ثم موجب ما ذكرناه في الكتابة الصحيحة أن العوض المقبوض إذا خرج فيها مستحَقاً، فلا وجه للحكم بحصول العتق، وإن نحن أجرينا الحكم به ظاهراً، فالباطن مخالف للظاهر، وإذا ظهر الباطن، تبينا أن لا عتق ظاهراً، وزال ما كنا نظنه، وليس هذا كالرضا بالعيب؛ فإنه ممكن، واستقرار العوض به مُتصوّر.
وإنما أطلت الكلام في تفصيل هذه المسائل على ظهورها، لأن كلام الأصحاب يُلفى مختلفاً. وصاحب التقريب ينقل نصوصاً، بعضها في الكتابة الصحيحة، وبعضها في الفاسدة، وهي تعتمد التعليق، كالخلع الوارد على الإعطاء، فليردّ المطلعُ على النصوص المختلفة تلك النصوصَ على التفاصيل التي ذكرناها، فلا وجه غيرها قطعاً.
ثم تمام الكلام أن المولى إذا قبض ما حسبه عوضاً، وقال بحسبه للمكاتب: قد عَتَقت، أو أنت حر، فإذا خرج المقبوض مستحَقاً، فقال المكاتب: أنت مؤاخذ بإقرارك، وقد قلت: إنك حر، فكيف السبيل في هذا؟
قلنا: القول في ذلك مبني على ما أجريناه في الدعاوى على قربٍ من العهد، فإذا اشترى الرجل عبداً وقبضه، فنُوزع فيه، فقال للمدّعي: لا يلزمني تسليم العبد إليك، فأقام المدعي بيّنة على استحقاقه؛ وتبين بطلانُ الشراء بحسبها، فللمشتري الرجوع بالثمن على البائع، وبمثله لو قال المشتري في أثناء النزاع: هذا العبد ملكي، ثم أفضت الخصومة إلى ثبوت استحقاق المدعي بالبينة؛ فلما أراد المشتري الرجوع بالثمن على البائع، قال البائع: قد أقررت بكون العبد ملكاً لك، ومن ضرورة إقرارك هذا-وقد تلقيت الملك مني- أن تكون معترفاً بأنه كان ملكي إلى أن بعتُه، فلا تملك الرجوع عليّ، ففي ذلك مذهبان: أظهرهما-وبه الفتوى- أنه يملك الرجوع، فإن قوله العبد ملكي مبني على ظاهر الحال، فإذا بيّنت البينةُ استحقاقَ المدعي، وزال الظاهر المظنون، فيزول بزواله قولُ المشتري.
ومن أصحابنا من قال: لا يملك الرجوع على البائع.
12548- عاد بنا الكلام إلى ما نحن فيه، فإذا قال المولى: قد عَتَقْتَ أو أنت حرّ، فهذا مأخوذ مما ذكرناه، فمن أجرى قوله على الظاهر، أبطل أثره عند زوال الظاهر المظنون، ولم نر مؤاخذته بموجب قوله، وهذا هو الذي نص عليه الشافعي.
ومن قال في مسألة الشراء والنزاع فيه: إن المشتري لا يملك الرجوع على البائع عند ثبوت الاستحقاق، فلا شك أنه لا يدرأ الحرية، وإن ثبت الاستحقاق في المقبوض، ويرى مؤاخذة المولى بقوله؛ من جهة أنه كان مستغنياً عن التلفظ بما ذكر، مع تجويزه خروج ما قبضه مستحقاً.
12549- وقد أورد الصيدلاني-على أنه لا يؤاخذ بموجب لفظه إذا جرى الاستحقاق في مقبوضه- فرعاً في الطلاق، ننقله على وجهه ونبين اختلاله:
وذلك أنه قال: إذا قالت المرأة لزوجها: أطلقتني؟ فقال الزوج: نعم، فهذا إقرار منه بالطلاق ظاهراً، فلو قال بعد ذلك: كنتُ أطلقتُ لفظاً حسبته مقتضياً لوقوع الطلاق، فأجريت إقراري بحسبه، ثم راجعت العلماء فأفتَوْني بأنه لم يكن طلاقاً، قال: هذا مقبول من الزوج، وقد وجدته كذلك في بعض المصنفات.
وفيما نقله الصيدلاني مزيد تأكيد؛ فإنه قال: إذا قال القائل للزوج: طلقتَ امرأتك؟ فقال: نعم طلقتها، ثم ادعى ما وصفناه، فالقول قوله.
وعندي أن هذا وهم وغلط؛ فإن الإقرار جرى مقصودًا بصريح الطلاق، فقبول خلافه حملاً على ظن يدعيه، ويتعارض فيه صدقه وكذبه، محال. ولو فتحنا هذا الباب، لما استقر إقرار بمقَرّ به، وليس هذا كما ذكرناه من إطلاق السيد لفظ الحرية على أثر قبض النجوم؛ فإنه محمولٌ ظاهراً على الإخبار عما يقتضيه القبض، فإذا انتقض القبض، تبعه القول المحمول عليه، على المسلك الظاهر، وليس هذا كما لو سئل الزوج عن الطلاق مطلقاً، من غير إشارة إلى واقعةٍ، ولفظةٍ فأقر المسؤول بالطلاق على الإطلاق، ثم رام فيه تأويلاً وحملاً على ظن ادعاه في لفظ خاص ذكره، ولم يقع السؤال عنه، فلا وجه إذاً إلا القطع بالمؤاخذة في مسألة الطلاق.
ولو قال في الكتابة: حرّرتُكَ، أو أعتقتك، وهو يبغي بذلك تحقيق الغرض، لو فرض استحقاق في المقبوض، كالذي يضم سبباً إلى سبب، طالباً تأكيداً، فهذا لا مردّ له، والمولى مؤاخذ به، وإن خرج العوض مستحَقة.
فصل:
قال: "ولو عجز أو مات وعليه ديون بُدىء بها على السيد... إلى آخره".
12550- هذا الفصل نجمع فيه تفصيل المذهب في الديون المجتمعة على المكاتب: عن معاملة، أو جناية، أو نجم كتابة، ونوضح ما نقدّم منها وما نؤخر وننظم اختلاف طرق الأصحاب بعون الله تعالى.
ومقصود الفصل كثيرُ التداور في مسائل الكتاب شديدُ المخامرة لها، فإذا أوضحناه، زالت عنا مؤنةٌ عظيمةٌ، فنذكر أولاً ديونَ السيد إذا انفردت، ثم ننعطف على اجتماع ديون الغير مع دين السيد.
فأما السيد إذا اجتمع له على مكاتبه نجومُ الكتابة، وأرشُ جنايةٍ كانت صدرت منه على السيد، أو على ماله؛ فإن كان الذي في يد المكاتب وافياً بالديون كلها، فلا إشكال، والمكاتب يوفّر حقوق السيد عليه، فلو أدى نجوم الكتابة أولاً، ورضي السيد بتقديمها فيعتِق بأداء النجوم لا محالة، وهل يبقى عليه أرشُ الجناية؟ هذا يُبنى على أن القِنَّ إذا جنى، وتعلّق الأرش برقبته، ثم عتق، فهل يطالب بالأرش، أو بالفاضل منه عن الفداء؟ فيه اختلاف قدمنا ذكره وبنيناه على أن العبد هل له ذمة في الجناية أم لا؟ هذا قولنا في الرقيق.
فأما المكاتَب إذا عتق، ففي بقاء الأرش عليه مسلكان:
أحدهما: التخريج على القولين المذكورين في القِنّ. والثاني-وهو الأصح- أن الأرش لا يسقط مذهباً واحداً، فإنه عند ثبوته، اقتضى توجيه الطَّلِبة به على المكاتَب على حسب توجيه الطَّلِبة في ديون المعاملة، فإذا عَتَق، دامت المطالبة، وليس ذلك كما ذكرناه في القن؛ فإنه لم يطالب في استمرار الرق عليه.
هذا إذا رضي السيد بتقديم نجوم الكتابة.
ولو كان الذي في يد المكاتب بحيث لا يفي بالنجم والأرش جميعاً، فقد ذكر الصيدلاني في ذلك طريقاً- نحن نطرده على وجهه، وذلك أنه قال: إذا كان الذي في يده وافياً بالنجوم، ولم يكن وافياً بها وبالأروش جميعاً، فلو أراد المولى-وقد تحقق ذلك-أن يعجِّز المكاتب؛ بناء منه على علمه بقصور ما في يده عن النجوم والأرش، فليس له تعجيزه، ولكن له أن يقول: أطالبك بدين الجناية أولاً، ولا أقبل منك شيئاً من مال الكتابة، حتى توفر عليّ الأرش كَمَلاً، فإذا استوفى منه أرش الجناية، فلم يبق في يده شيء، أو قَصَرَ ما في يده عن النجم المستحَق الحال، فيعجّزُ السيد حينئذ.
فإن قيل: هلا قلتم أن الخِيَرة إلى المكاتَب في تسليم ما في يده، فله أن يقول: أبدأ بتأدية النجوم، وعلى السيد موافقته فيما يبغيه من إيفاء النجوم؛ بناء على ما سبق تمهيده من أن المكاتب إذا جاء بالنجم قبل محِلّه، فيتعين على السيد قبوله؟ قلنا: إنما يجبر السيد على القبول، إذا لم يكن عليه ضرر في قبول النجم قبل المحِلّ، ولو كلفنا السيد فيما نحن فيه قبول النجوم قبل أرش الجناية، لعتق المكاتب، ثم لا يجد السيد مرجعاً على مفلس في أرش الجناية، ففي هذا إسقاط حقه. هذا كلامه.
12551- ثم فرعّ على هذا، وقال: لو أدى المكاتب ما في يده إلى سيده مطلقاً، ولم يتعرض واحد منهما للجهة، فإذا قال المكاتب: نويت به أداء النجوم، وأنكر السيد ذلك، فقد قال الصيدلاني حكايةً عن القفال: إن القول في ذلك قول المكاتب مع يمينه، أنه قصد ذلك، كما لو كان على الحرّ نوعان من الدين، فأدى أحدَهما مطلقاً، ثم زعم أنه أراد به الدينَ الذي به الرهن، ورام فكاكه، فقوله مقبول. هكذا حكاه من قول القفال.
ثم قال الصيدلاني: القياس عندي في مسألة المكاتب، إذا أطلق الأداء أن القول قول السيد أني قبضته عن الأرش، بخلاف سائر الديون؛ فإن الاختيار في هذه الصورة إلى السيد في قبض ما شاء، فينبغي أن يكون القول قوله، وهذا حسن بناء على ما تقدم.
وحقيقة القول فيه أن العبد لو نوى بأدائه النجومَ، والسيد نوى القبضَ عن جهة الأرش، وأقر كل واحد منهم بصورة الحال من غير نزاع، فالذي ذكره القفال يقتضي أن يقع عما يراه المكاتب، وهو النجم؛ فإنا وإن جوّزنا للسيد المطالبةَ بالأرش ابتداء، والامتناعَ عن قبول غيره، فإذا كان الأداء مطلقاً، فالعبرة بقصد المؤدِّي، وما ذكره الصيدلاني يقتضي أن يكون المؤدى يقع على حسب قصد السيد القابض، والعبرة بقصده في القبض، لا بقصد المؤدِّي.
فعلى موجب ذلك قال القفال: القول قول المكاتب في الإطلاق. وقال الصيدلاني: القول قول السيد، فإذا صدّق كل واحد صاحبه فيما نواه، وحصل التقارّ عليه، فمذهب القفال الرجوعُ إلى نية المكاتب المؤدِّي، وما اختاره الصيدلاني الرجوع إلى نية السيد القابض، وكل ما ذكرته محكي الصيدلاني وطريقه.
وذهب غيره من الأئمة في أصل الكلام إلى أنه مهما علم السيد أن الذي في يد المكاتب قاصر عن الأرش والنجم على الاجتماع، وتحقق ذلك، فله تعجيزه وردُّه إلى الرق، ولا يتوقف جواز التعجيز على أن يأخذ ما في يده عن الأرش.
وهذا متوجه عندي جداً؛ فإنه لو طالبه بالدينين معاً، لكان له ذلك، ثم هو يعجِز لا محالة في قسطٍ من النجوم، وإذا كانت الطَّلِبة يمكن توجيهها بالدينين، ثم من ضرورة ذلك العجز، فينبغي أن يملك التعجيز؛ بناء على طلبهما جمعاً، وعدمِ وفاء ذات اليد بهما، فأما تكليف السيد أن يطالب بالأرش أولاً، ثم يطلب النجوم بعده، فلا وجه له، مع تصوير المطالبة بهما، فهذا مقدار غرضنا الآن في ديون المولى.
12552- فأما إذا ثبتت عليه ديونُ الأجانب، وعلى المكاتب بقيةُ النجوم، فنقول: إذا اجتمع عليه النجم، ودين المعاملة للأجنبي، ودين جناية للأجنبي أيضاً، وليس للسيد إلا النجم، فحسب، فإن كان الذي في يد المكاتب يفي بجميع ما عليه، فلا إشكال، وإن كان لا يفي بجميعها، بل ضاق عنها، نُظِر: فإن لم يحجر القاضي عليه، وكان المكاتب مطلقاً، فأراد أن يقدم ديناً من الديون، فله ذلك، كما يكون ذلك للحر المعسر، الذي أحاطت به الديون، ولا حجر بعدُ، وليس هذا من التبرعات، حتى يمتنعَ على المكاتب؛ فإن تقديم دين على دين ليس بتبرعٍ إجماعاً.
ولو اجتمع غرماء المكاتب، واستدعَوْا من القاضي أن يحجر عليه-ولسنا نعني بالحجر ردّه إلى الرق، وإنما نعني تَفْليسه ليصرف ما في يده إلى غرمائه، على موجب الشرع، ويقصُر يده عن التقديم والتأخير- فإذا اتفق ذلك، وحجر القاضي عليه، فقد قال الشافعي: "إن لم يعجّز المكاتب-على ما سنذكر التفصيل في تعجيزه على أثر هذا إن شاء الله- وقد اجتمع عليه الأرشُ، والنجم، ودين المعاملة، فيقسم ما في يده بالسوية، لا يقدَّم دين على دين، والتقسيط على أقدار الديون". هذا هو النص.
والذي صار إليه معظم الأصحاب أن دين المعاملة للأجنبي مقدم على النجم، وعلى أرش الجناية-إن ثبت الأرش للأجنبي- فإنه يتعلق دين المعاملة بما في يده، ولا متعلق له سواه أصلاً، ولأرش الجناية متعلق آخر، وهو الرقبة، وكذلك حق السيد عند العجز يتعلق بالرقبة، فإن المكاتب يرتد رقيقاًً، فصاحب دين المعاملة مقدم.
ثم أرش الجناية على الأجنبي مقدم على النجم أيضاً؛ فإن أرش الجناية ألزمُ، والنجم بعرض السقوط مهما شاء المكاتب، وأيضاً فإن أرش الجناية على الأجنبي أقوى من حق مالك الرقبة؛ فإن العبد إذا جنى بِيع في الجناية، إن لم يَفْده السيد.
فهذا ما ذكره الأصحاب.
وقد حكى صاحب التقريب هذا. ثم قال صاحب التقريب: الأصح عندي الجريان على ظاهر النص، وهو أن ما في يده يقسم على النجم، والأرش، ودين المعاملة، على أقدارها ومبالغها؛ فإن جميع الديون متعلقة بما في يده، بدليل أن كل واحد لو انفرد، لتعلق به، والجناية إنما تتعلق بالرقبة إذا لم يكن في يده كسب؛ فينبغي أن يتضاربوا.
هذا اختيار صاحب التقريب. وهو ظاهر النص، وفيما حكاه العراقيون، إشعار بمصير بعض الأصحاب إلى موافقة النص، كما حكيناه، وسنذكر في التعجيز كلاماً على الاتصال.
12553- وإذا عجّز المكاتب نفسه، فلا شك في سقوط النجم بالتعجيز، فإذا بقي في يده من كسبه شيء، وعليه دين معاملة، وأرش جناية على أجنبي، فالذي صار إليه الأئمة، أن دين المعاملة أولى بذلك الشيء الذي في يده، إذا كان لا يفي إلا بأحدهما؛ فإنه لا تعلق لدين المعاملة سواه؛ وأرش الجناية يتعلق بالرقبة؛ فلا يسقط بتقديم دين المعاملة.
وذكر صاحب التقريب في هذه الحالة أن المكاتب إذا عجّز نفسه، فالذي في يده مقسوم على أهل الجنايات، ودينُ المعاملة يتأخر عن أرش الجناية، واحتج بأن قال: دينُ المعاملة ثبت بالمراضاة، فكان مؤخراً عَن الدين الثابت قهراً، من غير رضا المجني عليه؛ فإنا نقول لأصحاب ديون المعاملات، قد رضيتم بذمته، وعلمتم حاله وماله، فكنتم مؤاخذين بحكم ضعف الدين، وأرشُ الجناية لم يثبت بالرضا، وله تعلق بما في اليد مقدم.
وهذا قاله صاحب التقريب صريحاً، وهو غريب، لم أرَه لغيره، ومقتضى هذا أنهم لو ازدحموا ولم يعجّزوه، وقلنا بتقديم بعض الديون على بعض، أن دين الجناية يقدم على دين المعاملة، لما ذكره من قوة دين الجناية. والذي ذكره الأصحاب تقديم دين المعاملة، وما ذكره صاحب التقريب فرضه في الكسب الباقي بعد التعجيز، فأما قبل التعجيز، فلم يحكِ إلا مسلكين:
أحدهما: أنهم يتضاربون بالسوية، وهو ظاهر النص، والثاني: أن دين المعاملة مقدم، وقياسه يقتضي تقديم دين الجناية بعد التعجيز، وإن لم يقله.
فأنتظم بعد التعجيز نقلاً وحكاية أن النجوم تسقط لا محالة، وكذلك ديون معاملة السيد، وفيما بقي عليه من ديون معاملةٍ لأجنبي، وأرش جناية على أجنبي أوجه: أحدها:وهو ما مال إليه معظم الأصحاب- أن دين المعاملة مقدم، والثاني: وهو الذي ذكره صاحب التقريب-أن أرش الجناية مقدم- وحكى شيخي وجهاً ثالثاً- أنهما سواء.
وكل ذلك في التعلق بما صادفناه من كسبه بعد التعجيز، والوجه الثالث الذي حكاه شيخي رأيته في طرق العراق، وكان شيخي يقول: لا يصح عندي غيره.
12554- ولو مات المكاتَب، فقد رق بالموت، فإن كان خلف كسباً، وعليه دينُ معاملة لأجنبي، وأرشُ جناية-والتفريع على مذهب الجمهور في أن دين المعاملة مقدم في الحياة بعد التعجيز- فعلى هذا؛ إذا مات، ففي المسألة وجهان:
أحدهما: أن دين المعاملة أولى استصحاباً لهذا التقديم في حالة الحياة، والوجه الثاني- أنهما سواء. وذلك لأن لكل واحد منهما تعلقاً بالكسب، وكنا نؤخر أرش الجناية في التعلق بالكسب لتعلقه بالرقبة، وقد فاتت الرقبة بالموت، فاستويا، وإن جمعنا اختيار صاحب التقريب إلى ما ذكرنا جرى وجهٌ ثالث في أن أرش الجناية مقدم.
وإنما غرضنا بالتصوير فيما بعد الموت التنبيهُ على الفرق الذي ذكرناه، وتخريج وجهين بعد الموت. وإن قطعنا على مذهب الجمهور بأحدهما في حالة الحياة.
12555- ومن تمام البيان في هذا الفصل شيئان:
أحدهما: بيان من له حق التعجيز، فنقول: السيد له حق التعجيز لأجل النجوم، ولو جنى على سيده، فضاق ما في يده عن الأرش والنجوم، فهل للسيد حق التعجيز؟ قد ذكرت هذا ونقلت طريقة الصيدلاني، ومسلكَ غيره، ودينُ معاملة السيد في هذا المعنى كأرش الجناية عليه، هذا في السيد.
فأما الأجانب، فنقول: إذا جنى على أجنبي، وضاق ما في يده عن أرش الجناية، فقد قال الأصحاب: للأجنبي حقُّ تعجيزه، لتباع رقبته في جنايته، وأطلق الأصحاب ذلك، وظاهر قولهم أنه يعجِّزه بنفسه من غير قاضٍ، ولا يبعد عندنا أن يقال: يرفعه إلى القاضي ليفسخ؛ فإنه ليس هو العاقد، فانفراده بالفسخ بعيد.
ثم لو همّ بتعجيزه، فأراد السيد أن يفديه، فهذا فيه احتمال ظاهر، متلقى من قول الأصحاب؛ من جهة أن السيد إنما يفدي إذا تعلق الأرش بالرقبة، وهذا لا يتحقق ما دامت الكتابة، وليس السيد في المكاتبة بمثابة مولى المستولدة، حتى يُجعل بالكتابة مانعاً، كما جُعل مولى المستولدة بالاستيلاد مانعاً. هذا وجه.
ويجوز أن يقال: له أن يفديه؛ فإنه رقيقه، وقد يكون له غرض في تتميم العتاقة فيه.
والظاهر أن الفداء لا يجب قبوله ما دامت الكتابة.
ولو ثبت دين المعاملة لأجنبي، فقد قال الصيدلاني وغيره: ليس له التعجيز بسبب دين المعاملة؛ فإنه لا يستفيد بالتعجيز شيئاً؛ إذ لا يتعلق حقه إلا بالكسب قبل التعجيز وبعده، والمجني عليه يستفيد بالتعجيز تعلقَ حقه بالرقبة، فهذا أحد الشيئين.
والثاني: أنه إذا اجتمع على المكاتب ديون الأجانب من الجهات التي قدمناها، فكلها مقدمة على النجوم في الرأي الظاهر، فلو كان للسيد على مكاتبه ديونُ معاملة؛ فقد قال بعض الأصحاب: يضارب بها ديون المعاملات للأجانب، وإن لم يضارب بالنجم؛ فإن دين المعاملة للسيد إذا سقط، لم يستبدل عنه، والنجمُ إذا سقط، عاد السيد إلى الرقبة.
وقال بعض أصحابنا: لا يضارب السيد بدين المعاملة إذا قلنا: لا يضارب بالنجم؛ فإن ديون السيد عرضة للسقوط بالتعجيز، بخلاف ديون الأجانب.
فهذا تمام المراد، ونهاية الكشف في ديون المكاتب في حالاته: في الحياة، والممات، وما قبل التعجيز، وبعده.
12556- ثم حكى صاحب التقريب في أثناء الكلام شيئاً غريباً، لم أوثر حكايته في ترتيب المذهب، ولم أر تركَ ما حكاه إمام عظيم، قال رضي الله عنه: إذا ثبت لأجنبي دين معاملة على مكاتب، ثم ارتفعت الكتابة بالتعجيز، وليس ثمَّ كسبٌ، فالمذهب المقطوع به أن دين المعاملة لا يتعلق برقبة المكاتب كدين الجناية، قال صاحب التقريب: من أصحابنا من صار إلى ذلك. ثم قال: ولست أعرف له وجهاً، وما حكاه مجانب لمذهب الشافعي وقياسِه، ولا نعرف خلافاً بين الأصحاب في أن ديون معاملات العبد المأذون لا تتعلق برقبته إذا زادت الديون على ما في يده، فإن سلم صاحب الوجه الغريب ذلك، لم نجد فرقاً، وإن طرد مذهبه في هذه الصورة، كان تاركاً لأصل المذهب.
وأبو حنيفة يحكم بتعلق ديون المعاملة برقبة المأذون. والله أعلم.